هَلْ كان العالمُ جميلاً ؟
لطيفة لبصير
قاصة من المغرب
– …
– لست أدري…
المقبرة كما تشير اللافتة تقع في الأسفل. هل يمكن أن أتبع اللافتة؟ هبطت بعيني وتتبعت إلى حيث يرقد الآخرون… كانوا بعيدين جدا… في أسفل الوادي تجثم مقبرة كبيرة. لكن الوادي كان جافا جدا، رغم المطر الأخير. الغريب أنه لم يحتفظ ولو ببضع قطرات من المياه التي تنزل كل يوم.
لا شك أن الموتى يشربون هم أيضا من الوادي، لذلك وجدت تلك المقبرة هناك. وقفت في الأعلى وبقيت أنظر، أتربص بهم كي يستيقظوا قليلا. كانوا بعيدين جدا حتى أنهم بدوا غريبين عن المدينة. تأملت الممر الذي يعبر إليهم، فبدا شائكا وصعبا، بحيث أنني لم أعرف كيف يقومون بدفن أمواتهم… ألا يسقطون في هذا الممر الصعب؟ كيف يصل النعش بطقوسه إلى أسفل الوادي؟ وماذا لو قاموا بدفن الميت لحظة المطر؟
بدا العالم غريبا جدا، لو أن الموتى كانوا يعرفون أنهم سيدفنون في الوادي لما قبلوا ذلك، بدا كما لو أن أقرباءهم ألقوا بهم هناك حتى يجرفهم الوادي حين يمتلئ بالمياه، فيبكون عليهم من جديد ويرتاحون بشدة كونهم لم يعودوا هناك كنقطة نظام في حياتهم العادية الجميلة…
المقبرة والوادي المليء بالحجارة من كل صوب وحدب، وأناس كانوا يرون العالم جميلا، ربما…
– هل كان العالم جميلا؟
سألت خليل:
– لست أدري…
أحضر النادل بيرة باردة، وفتح القنينة وأفرغ نصفها في كأس طويل وأنيق، فأحدثت فقاعات باردة وروائح منعشة في الجو، نظرت إليها فبدت صفراء داكنة… كان النايت كلوب قد بدأ يمتلىء بزبائنه المعتادين والطارئين عليه. عيون شاردة، متلهفة، باحثة ومنقبة، ترتاد المكان، دخان وخمر، وعطور وأجساد كثيرة وأضواء خافتة، وزدك… زدك… زدك…
سألت خليل:
– ماذا لو دفنوا في مقبرة الوادي؟
– المقبرة هي المقبرة، إن كانت في الوادي أو في وسط المدينة…
– ولكن الميت يبدو وحيدا هناك، بلا أصدقاء… كيف سيشعر؟
– الموتى لا يشعرون…
زدك… زدك… زدك… هذا الإيقاع المتكرر الذي لا يمل منه هؤلاء الداخلون إلى حلبة الرقص. كنا هاربين معا من الضجيج بداخلنا إلى ضجيج خارجنا تماما.
– هل كان الآخرون يشعرون مثلنا؟
– لست أدري…
أجلس منكمشة وسط الألوان التي يبعثها الليل، ويطل وجه حياة جارتي. كانت تطرق بابي كل صباح وتحدثني عن مشاكلها الصغرى مع زوجها. ونبدأ بتفكيك ذلك ونحن نضحك آملتين في عالم آخر…
ذات صباح عادي تماما، طرق زوجها الباب، وهو يصرخ:
– لقد ماتت حياة…
هرعت إليها، فرأيت في عينيها شبح العالم الآخر… كان فظيعا، فجأة انسحبت الروح منها، وظلت هكذا تمثالا باردا. اقتربت من يديها الباردتين وأمسكت بهما، لم تكونا تحدثان أية حركة من حركاتها المتكررة التي كانت تفعلها. فجأة، أعلنت موعد اختفاء عاداتها ويومياتها الصباحية الجميلة. كان وجهها قد أصبح بشعا بما يكفي لجعلي أرى الموت يحمل كل البشاعة. بقيت مسمرة أمام الجثة، وتخيلت مآلها القريب، عما قريب ستتحول إلى هيكل عظمي… الهيكل الذي كنا قرأناه في مادة العلوم الطبيعية، مازلت أذكره رغم مرور السنين، كان هيكلا اصطناعيا جميلا ومهذبا، لم يسبق له أن ضم حياة شخص ولم يحفل بالذكريات ولا صرخ أو غضب، أو فرح أو تحمل بردا أو حرارة. لقد كان يبدو هيكلا هادئا تماما خاليا من المشاعر. ولم أدون منذ ذلك التاريخ إلا أن الهيكل العظمي نقي تماما. باختصار، كان الهيكل الوحيد الذي رأيته عن قرب في حياتي.
كان وجه حياة قد أبرز كل العيوب على الوجه، وتراجع الفم إلى الوراء وانكشفت أسنان تقضم شيئا لا أعرف ما هو. لا شك أن حياة كانت تصارع الموت، كي تعود إلى الحياة، فعضت على لسانها من شدة الألم وانسحبت. لم أستطع أن أعثر على تفسير للقلق الذي تلبسني في تلك اللحظة. كيف تحولت حياة هكذا إلى كائن ينشر البشاعة بعدما كانت تمنح الجمال. أصبحت هكذا جسدا بشعا. الغريب أن جمالها بدأ يختفي أمام بشاعة الجثة. كانت الجثة تحدث تشويشا في ذاكرتي، فأرى وجهها الجميل ملتحفا وجهها البشع. ذلك التحول جعلني أرتاب في أمر الجمال. فقد كان قدر الجمال بالنسبة إلي قبل ذلك التاريخ، أنه لن ينتهي أبدا، ولن يتحول إلى جسد منخور، ولن يصبح هيكلا خاليا من اللحم الذي يزينه. كانوا يهيلون التراب على جسدها، بعد أن حفروا عمقا لا ينتهي، ولم أدر لماذا أغرقوا الحفرة، ربما كي لا تستيقظ من جديد. فقد كان جسدها قد نشر البشاعة في الجو، ولم يعد محتملا أن تدب فيه الحياة، حتى إن عادت إليه، فإن وجه البشاعة سيمحو وجه الجمال الذي احتفت به طوال حياتها الصغيرة. تتردد الحفرة في ذاكرتي، الحفرة، لا أدري بما تذكرني… إنه المكان الذي أجلس فيه الآن، ولا أدري لماذا يلقبونه بالحفرة، سألت خليل، عن ذلك، نظر إلي، وقال:
– إنه في لاكاف، وهو منحدر عن الأرض…
وغاب يرتع في الأجساد المنتعشة أمامنا… وزدك… زدك… زدك… الأجساد الجميلة العارية، أتأمل المكان… يشبه الحفرة التي دفنت فيها حياة حين ماتت، غير أن تلك الحفرة كانت نقطة اللاعودة، بينما يبحث أناس هذه الحفرة عن الحياة. استدعاني خليل للرقص، وصرت أصخب وأركض بكل الاتجاهات، قدماي تضغطان بحدة على الأرض وتدقانها كي تحدثا بها حفرة صغيرة… شيء ما بداخلي يحدث ضجيجا قويا، كنت أصرخ، أمامي نساء يتلوين مثل الأفاعي، كان رقصهن غريبا، وهن ينتشين من الرقص بهدف إيجاد جسد آخر يحتفي بهن ويمدهن بشيء ما، وكنت هاربة من شيء لست أدري ما هو… زدك… زدك… زدك… حياة كانت ترقص معي في تلك اللحظة، مدت لي يديها الشاحبتين، أمسكت بخليل وغصت بين ذراعيه وأنا أتلوى من الخوف… وسألته مرة أخرى:
– هل كان العالم جميلا؟
– بالنسبة لمن؟
– بالنسبة للذين عاشوا قبلنا؟
– سيكون جميلا حتى بالنسبة للذين سيولدون، هيا نرقص في هذه اللحظة…
– …
قصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة