عبد النور مزين كاتب مغربي يروي تحولات قائد الذئاب القرمزية

15 يناير 2021
عبد النور مزين كاتب مغربي يروي تحولات قائد الذئاب القرمزية

ذئابٌ قرمزية 

عبد النور مزين 

روائي من المغرب

أفزاز عالمي الملتبس.

تلك المدينة الآسرة، أسرتني على أكثر من مستوى. لا أستطيع التفكير في حياتي بمعزل عن كل تلك الصور والأحداث التي شكلت، بوشم ناري في الروح وفي الجسد، ما تبقى من حياتي اللاحقة. كانت أعنف من تلك الأيام التي أخذوا فيها أبي إلى حيث لا أعلم. فجأة لم يعد موجودا في حياتنا إلا كلاما وحسرة ودموعا على خد أمي. لاحقا علمت أنهم أخذوه بعيدا إلى الجاكاراندا، تلك المدينة البعيدة التي لم أسمع بها من قبل إلا في دروس القراءة، كمدينة شقيقة لأخواتها الثلاث، غرناطة، إشبيلية وقرطبة. أخذت أبي ليموت موتا صغيرا هناك. هكذا كنت أتخيله، في غيابه، ميتا ذلك الموت الصغير، الذي لن يلبث أن ينهض من قبره ذاك ويعود إلينا كما يعود الموتى في الحكايات التي حكتها لي أمي عن الذين أعدمهم الفرنسيس[1] هناك في جبال الأوراسين. سيعودون لاحقا على خيولهم يحملون البواريد اللامعة وسيوفا من نار. هكذا كانت أمي تحكي تلك الحكايات التي حفظتها في موغنيات. 

أخي الأكبر موحاند كان يغيب مرارا ويذهب إلى حيث لا ندري، لكني علمت لاحقا. كان دوما يعود إلى أن غاب غيبته الأخيرة. كان يعود ليلا ولا نفطن لذهابه وغيابه إلا عبر نظرات زوجته نزهة وولديه رفقي ونور الدين. كانت تشبه نظرات كلبنا طوني حين نزحنا نزوحنا الأول عن النعمانية وحللنا بجوار جدتي لويزة في باب الريح، قبل أن نضطر خلال نزوحنا الثاني، مرغمين، إلى إطلاق النار عليه، رأفة به. كان قد هرم ولم يعد يطيق فراقي لا في البيت ولا في المدرسة حيث كان يعاني معاناته الشديدة مع التلاميذ. كانوا يضربونه بالحجارة كلما اقترب من بوابة المدرسة. كنت دوما أجده في الانتظار، بعد أن يهرول قادما من المكان البعيد حيث كان ينتظر. كم من المرات جاءني بجرح نازف في الرأس أو في مكان آخر من جسمه الهزيل. كان آخر أصدقائي من النعمانية الذي فقدت، على طريق النزوح، بعدما فقدت، ذاك السعيد، أعزهم الذي ضمني إلى صدره، عند جذع السنديانة فيما يلي الجسر، ذلك اليوم البعيد والنعمانية تحت الغارات. لم أنس طول حياتي التي توالت، عبق نفَسه الذي وشم أنفاسي، وظل يحفر في الروح وشم الذكرى البعيدة، كما حفرته تلك الغارات.

عندما أفرجوا عن أبي وعاد إلى باب الريح، كان الحزن قد نزل على وجهه وأقام هناك في عينيه. فكرت أن تلك الظلال جاءت من المكان الذي كان فيه، والذي كان مظلما حتما. هكذا تخيلته. لكنها كانت تزداد قتامة مع مرور الوقت وحلول الصمت الذي أضحى لا يفارق والدي. كان لا يكاد يكلم أحدا غير والدتي. وحتى إن اقتربنا منه كان يكتفي بتمسيد شعرنا والربت على رؤوسنا وغالبا ما كان يتحاشى النظر في عيوننا. 

حاول مرارا العودة إلى النعمانية. رفضوا ذلك بحزم. كان عليه أن يطلب إذنا بالعودة لزيارة ما بقي من منزلنا هناك. كانت حواجز القوات تنتصب بمجرد الاقتراب من الطريق الأفقي، أعلى التلال المطلة على النعمانية، العابر نحو المنصورية. هكذا قال أبي. كانت الذئاب القرمزية تنتشر في الوديان والسواقي والمرتفعات، من النعمانية وحتى زاريف على مشارف أستوف. 

في المرة الأخيرة أعطوه تصريحا بالزيارة. ذلك اليوم رأيت على وجهه ما بدا لي شبه فرح مشوب بقلق. رفض في البداية أن يرافقه أحد، لكنه قبل بأخي المنذر. كان قد صار أكبرنا بعد أن غاب أخي موحاند ولم يعد له وجود بيننا، حتى انقطعت عنا أخباره، بعد أن رحلت، بذلك الشكل، زوجته نزهة وولديه نور الدين ورفقي. تسللوا خارج باب الريح، مع غرباء، بعيد منتصف الليل، كما قيل لينتشر الخبر في باب الريح في الصباح التالي. 

خرجا بعيد الفجر بقليل. أخذا بغلة واحدة. كانت حادثة بغلة عمي بوناصر ما تزال حاضرة في الأذهان، ومعها الحديث عن تلك الجثة المفصولة الرأس على جانب النهر كما حكت تلك المريدة. ازداد القتال بعد ذلك بين الذئاب المتصارعة. ذئاب قرمزية وذئاب بيض. لكل منها نشيدها الخاص بها وكراريسها الخاصة بها. لم أعلم بحقيقة أخي موحاند إلا بعدما ألقي القبض عليه لتنتشر صوره كقائد للذئاب القرمزية.

(1)     الفرنسيين كما كنا نسميهم ونحن صغار.

نص (مقطع من رواية جديدة ) خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com