أشرف دسوقي علي
شاعر وناقد من مصر
قراءة نقدية في ديوان ..صهيل الغواية
التشكيل الشعري ودراما الصورة في صهيل الغواية للشاعر العراقي العروبي الدكتور إبراهيم الحمد قراءة نقدية أشرف دسوقي علي شاعر وناقد مصري عبر عنوان مركب لهذا الديوان، ندرك أنه لايمكن تجاهل عناوين الدواوين أو المجموعات القصصية أوغيرها أو اعتبارها مجرد نوع من التمييز بين عمل وآخر ، فالعنوان هو أحد أهم الدوال التي تمنح العمل نفسه قيمة مغايرة لغيره من الأعمال. يبدأ العنوان بالدلالة اللغوية للصوت والدلالة اللغوية للصورة، فالصهيل صوت و الغواية صوت وصورة، اجتمعا معا، لمنح المتلقي وعدا بالولوج إلي فضاء شعري مغاير لقصائد وأعمال قد تكون استخدمت الدال نفسه وهي كثيرة سابقة ولا حقة على هذا العمل والصهيل هو حدة الصوت وصلابته وقوته مصحوبا بحركة مفاجئة ملفتة للأنظار والأسماع، أما الغواية فهي تفتح الباب على مصراعيه للتلقي الذهني ومحاولة التماهي مع الحالة الشعرية المقبلة في حالة تقبلها أو الصراع معها في حالة رفضها.ثم نلج إلى معبر تال هو الٌإهداء فهو يهدي ديوانه لكليهما “كلاكما وطن مازلت أجهله كلاكما شجن في القلب أحمله وللغوايات في صوتي منازلها ورب غاو صهيل الريح منزله فالصهيل و الغوايات مقترنان، فالصهيل للخيل والريح والغوايات اقترنت بالشعراء خاصة، وإن لم تكن حكرا عليهم، بل أيضا على أتباعهم، كما ورد في الآية القرآنية الكريمة “الشعراء يتبعهم الغاوون” ولا شك أن كل من اتبع هواه هو من الغاوين .يحثنا النص علب أن نصغي إلى غواية الجواد عبر صهيل أبدي يشي بمواجده عبر أزمنة لا تفنى، ولا يكتفي الجواد بصهيل واحد، بل يصهل مرة أخرى بل مرات ، عبر إهداء آخر لمن لقبها بالشاعرة الأميرة عبير بالهول قائلا: مري على ظمئي سحابة ماء وتقطري فرحا على صحرائي وتباطئي حتي ارتواء الوقت من عيني وصمت الورد في أنحائي وإن كان هذا الإهداء الثاني في متن الديوان البيتي، ليثبت الشاعر قدرته على مقاربة القصيد البيتي و استدعاءات تتجاوز أصولية النص الكلاسيكي وذلك باكتشاف فضاءات جديدة بعيدا عن ضيق أفق بعض من قصائد الشعر البيتي كالتكرار والدوران في نفس الموضوعات ونفس التناول والبلاغة القديمة، ليثبت أن لكل شكل من أشكال الكتابة منحاه الإبداعي ولا يمكن لشكل اقصاء شكل أو أن يحل محله ، وأن الشاعر وثقافته وموهبته هي الفيصل في العملية الإبداعية.فالقصيدة التفعيلية التي اعتبرت فاتحة في عالم الشعر، أصبحت قصيدة كلاسيكية غير قادرة علي أن تفي بالغرض واعتبر ما استفتحت به نازك الملائكه تراثا واعتبركثيرون أن أمل دنقل آخر الشعراء الجاهليين وبعد أن كانت قصيدة النثر ثورة شعرية ومحاولة لكسر كل تابوهات الشعر العربي متأثرين بالشكل الغربي الفرنسي تحديدا في محاولة لإضافة شعرية جديدة رغم كل هذا، يتمسك الشاعر بمواجهة كل ما سبق، دون أن يفلت منه زمام القصيد، متحديا كل التوجهات المعاصرة مراهنا على قدرته الإبداعية وثقافته المتنوعة في تقديم عمل متماسك قادر على المواجهة والتحدي. يتوجه الكاتب إلي وطنه العراق فيما يبدو للوهلة الأولى نوعا من الحماسة والتقريرية في ظاهره، بينما هو في الحقيقة تحذير مما حدث ويحدث لهذا الوطن من احتلال وتقطيع لأوصال بلد ضارب في الحضارة، ورغم كل ما يتعرض له، ما زال صامدا يتحدى المحن والمحتل ومؤامرات التقسيم خصتك أردية الرمال بمائها لو كان ماء، ويك من بلوائها و أضلت الدنيا برسم خاطف أمني وحرضت السنا بردائها إذ كان صيف الصائفين تقعرا يهذي وشاء صوحت بثغاءها والشاء ممن قد أمنت وشرها باق وتبني فيك غيظ عدائها ويختتم هذا المقطع من القصيدة بالجزء الحكمي القاطع الدلالة: شر البلية أن تصدق صاحبا وبه من الأوباء شر وبائها ليصل الي بيت القصيد وعليك صلي المجد، إنك مجده مذ أورثتك الشمس خيط ضيائها أنت العراق وكل عليا بعده كسر بنسبته بحجم فضائها وبك العراق وأنت وارث حزنه فاحذر جهاتك ويك من أشنائها ورغم ما يبدو من قدرة الشاعر علي صياغة بيت شعر يمثل معنى قائما بذاته، إلا أنه ينضوي تحت لواء القصيدة كجزء من بنيتها الشعرية ووحدتها العضوية ليكون معنى جزئي في فضاء ذي معني أكثر شمولا، يمارس حبا لوطنه السامق مشيدا بأمجاده وقدرته على التحدي والصمود ممثلا الحضارة بكل ماتعنيه الكلمة. لا يكتفي الشاعر بالاستخدام الشعري عبر مفردات شائعة، بل يسعى إلى ماسعي قبله شاعر كبير كالمتنبي دون أن تكون المفردة ناتئة عن السياق اللغوي أو النغمي ،ئيقول: وبهزة من عارضيك تقزمت واشاء كت في مستحيل بقائها والعتب كل العتب منك فأنت لم تشجب بغاثا أوغلت بدهائها ومن الوطن الوطن إلى المرأة الوطن مرة أخرى إلى الأميرة التونسية الشاعرة والصحفية عبير بالهول ومن وحيها، فيضفي عليها ما أضفاه على الوطن، فهي أمة وحدها فيقول : وإنك أمة بالحسن تسعى فتغبط كل شيء حين تسعى لها طبع العبير وقد تسمي بها حتى ارتوي منها فشعا تجر وراءها البحر انتشاء وتترك خلفها العشاق صرعي وإذا كان الاحتفاء بوطنه العراق احتفاء يكتنفه الألم والحزن، فإن احتفاءه بالمرأة الوطن يأتي على النقيض تماما، فهو ممتلئ بالبهجة والانطلاق ولا يتسم بالحذر أو التكلف، فتشم رائحة للعطور لم تشم من قبل وتستكمل المعاني ويتم النحو والصرف وتجد اليمامات على أغصانها و إنك راية عليا وشمس بها الإنسان يسمو كل مسع وإنك لو تحدثت المعاني بك استوفت من الإعراب رفعا لعينيك الحمام يطير زهوا وتدفع بعضها الأزهار دفعا حتى البحر الهائج الهادر بأمواجه الصاخبة يكف في حرم الجمال عن هدير أمواجا ليصغى إلى هسيس أنفاسها وعذب حديثها و في شغف السواحل ذات مد أصاخ البحر حين رآك سمعا وهي امرأة فاقت كل النساء و تجاوزت الحد المسموح فيقول: لذلك كلما شاهدت أنثى رأيتك تطلعين إلي سبعا إلى أن يقول: عصا موسى بأمر الله كانت فهل من عصا بالحب تسعي؟ ويتجول الشاعر عبر مرتفعات ومنخفضات أثيره الشعري، عبر قمم وسفوح الوجد ، حيث تتنوع وتتشابك أحزانه وأشجانه وتتوزع خلجاته بين هموم الوطن والحب الجارف للمرأة ومطاردتها كأنثى استثنائيه إلي تغريبة لصاحب الناي، لتكتشف أنه ما زال هنا يحلق على أرض الوطن، فصاحب تغريبة الناي الحزين هو الشاعر وهو الوطن يستدعي الماضي، يستدعي نيرون ليسقط ما فعله علي الواقع المعيش، تلك الفاجعة التي داهمت العراق في العقود الأخيرة حتى صار الناي أعمى مذ فداحة ما قالت يد الناي لما جاءت الدخلا وربما نستغرب صورة الناي الأعمى، فكان من العادي والطبيعي و الممكن أن يصف الناي بالأصم والأبكم أو حتى بصاحب النغم النشاز،أو الناي المكسور، لكن هول الفاجعة جعله يستخدم ما يسمى بتراسل الحواس ليصبح الناي أعمى ليصل إلى بيت قصيد آخر قائلا: قم يا أبو الخلق باع العرب مسرحهم واستئمروا من أساهم هرقلا بطلا كأن قصيدته دراما يتتصاعد لتبني العقد الثانوية وتتضافر حتى تصل إلى الذروة، وفكان هذا البيت مشهدا دراميا وكأنه “ماستر سين” المسرحية، فهذا ما جناه العرب على أنفسهم بفرقتهم وضعفهم باستئمارالغرباء القتلة مصاصي الدماء ، فشوفونية الشاعر لا تستمر ولا تكتمل كما ظنننا للوهلة الأولى بل تراه ينطلق م وطنه العراق إلى وطن أكثر رحابة إلى مصر إلى الشام و فلسطين فيتسع أفق القصيدة للوطن العربي الكبير إلى اليمن الذي كان سعيدا مستعينا بالحكمة التراثية أكلت يوم أكل الثور الأبيض كانوا أكيلة من ياقدس معذرة فليسألوا أبيض الثيران من أكلا كم وطن للشاعر حتى اللحظة؟ الوطن الأارض الوطن المرأة، ليطالعنا بوطن ثالث الوطن الشعر وإذا كان الوطن الوطن هو الشجن والحزن والمأساة وإذا كان الوطن المرأة هو البهجة والفرح، فإن الوطن الشعر هو الحزن الجديد والشجن الممتد ياسيدي الليل أنا خائف من أين يباع الشعر مثل الرقيق سواه لم يبق لنا كيف لو أن فقدناه وضل الطريق يكتمل ثالوث الصهيل والغوايات بقلق مشروع فالشعر هو الملجأ الأخير في وطن ضائع بالفعل والمرأة بهجة مراوغة وفرح قد يغادر في أي لحظة رغم جميل الاحتفاء لكن الشعر هو الخط الأحمر ماذا لو غادرنا لو غادرنا لضللنا بل ضل الطريق |
لكنه يأ بي الاعتراف بموت الشعر كم سلم من قبل بموت العراق فلا يمكن أن يموت الشعر ولا يمكن أن يهوي
يا شامخا على المدى كان به
رغم وجوم من ساحق من بريق
وكما قلت حين يحتفي بالأنثى يزداد بهاء و انطلاقا وسلاسة، بل يضيف صور ا
جديدة فيقول:
أنا هنا مطر أضاعت ثيابه
فاحتاج مما احتاجه للماء
فلتعصري عنب اللقاء وتسكبي
خمر الدلال وتوقدي إغوائي
فأي مطر هذا الذي أضاع ثيابه وكيف تكونت ثياب المطر؟
حتى في استخدامه لكلمة مثل كريستال، دانتيل لم أجد أنها ناتئة عن السياق
نثرت كريستال ابتسامة تغرها
وتوهج شجرا من الأصداء
وسعت من الدانتيل تلك أل “هيت لك “تلك لتفر من شهقتي سمرائي
هكذا يضيف أل لهيت لك وكأن هيت لك تحولت إلى اسم’ اسم بديل أو كناية عن من لا يريد ذكر اسمها، ليتناسب مع الحدث الأشهر في تاريخ الغواية، غواية زليخة ليوسف ثم يعود سريعا إلى شكواه مسافرا حزينا من خيمة في عراء الروح وهي مدى ومن شواطئ جرح موصد كمدا
متنا جميعا بشرط أن من دفنوا
لقوا لحودا وإني لم أجد لحدا
وكأن الشاعر استشرف ما يمر به عالمنا من وباء يضرب الكرة الأرضية الآن ، فلم يعد المرء يخشي الموت قدر خشيته من ألا يجد لحدا!
كما يقع المتلقي على بيت داخل هذه القصيدة يقول فيه:
معي يسافر من شكواه أتعبني
مسافر السبت يدمي قلبي الأحدا
فشطره الثاني يمكن أن يصير حكمة أو مثلا، فهو قابل للتناص مع المثل الشعبي من “قدم السبت” مع اختلاف المعنى بالطبع وتظل الصيغة الحكمية تتوالى وكأنه يتبع خط جده المتنبي قائلا :
يعري الكريم ولاتعرى مروءته
ثوب المروءة يبقى للكرام ردا
وهكذا ينتقل بين أوطان ثلاثة : الأرض، المرأة والشعر، يراوح بينهم كما احتفي بصاحبه و بأغانيه القروية، إضافة إلى ثالوثه الأسمي، احتفي بالمرأة، في شكوى سيابية
أنا ابن عزمك يا سياب خذ بيدي
فنحن في محنة التاريخ والمطر
وترق لغته حين يعود لوطنه المرأة
قلت يا سيدتي خفي على كبدي
و اسقى رايحين الغزل
ففي طفلة الورد لا يكف عن الاحتفاء بها :
حقل الورود بوصفها بستان لا الوصل يعنيني ولا الحرمان
كم هي رائعة هذه الصورة حين نقارن بينها وبين حقل الورود، فتكون الحقول كلها عملة زائفة أمام حسنها بين كل عذاباته وشقائه في وطنه وبه، إلا أن روح المرح قد تتسلل وئيدا فيستخدم الكثير من المفردات المتداولة البسيطة، عكس ما يستخدم في أيقونة الوطن الأرض من ألفاظ وتراكيب رصينة يحتملها المأزق الوجودي والهم الشعري وغواية الأنثي.
القراءة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب -لندن
نشر رائع عميق صديقي العزيز أشرف الدسوقي يسعد روحك و كل أوقاتك