أزمة الضمير

7 فبراير 2021
أزمة الضمير

محمد زكي ابراهيـم

إني لأعجب لمن يحاول أن يتلافى أزمته الاقتصادية بخلق أزمة أخرى، أو يقوم بتخفيف العبء عن كاهله بإضافة أعباء جديدة. فالمنطق السليم يحتم على المرء أن يعمل وينتج بوسائل مشروعة، لا أن يظل عالة على الغير. وهناك فرق بين من يبحث عن مورد جديد يتكفل بنفقاته، هو وأسرته. وبين طفيلي يعيش على جهد الآخرين، أو لص يسطو على أموال سواه، وهكذا.
أعرف الكثير من السيدات المجتهدات، اللواتي أنشأن مشروعهن الخاص في منازلهن، حتى يتمكن من الإنفاق على أسرهن. ولم يستسلمن للظروف القاسية، أو يندبن حظهن العاثر. بدأن بعمل صغير بمفردهن. ثم حققن نجاحاً جيداً بمثابرتهن وذكائهن، فتقدمن خطوات أخرى. وتمكن من الخروج عن نطاق المنزل، بعد أن وجدن الفرصة سانحة للانطلاق.
أسوق هذا الحديث وأنا أتأمل باستغراب كيف تحل الدولة العراقية مشاكلها المالية هذه الأيام. فهي على الرغم من وفرة المواد الخام، وطوفان الموارد البشرية، لا تجد مخرجاً لعجز موازنتها إلا بوسائل غير مبررة. مثل الاقتراض من الخارج، وتخفيض العملة، والاستقطاع من الرواتب، وفرض الضرائب، وغير ذلك. وفي هذا ما فيه من الإضرار بمصالح الناس، الذين لم ينسوا بعد معاناتهم في عقد التسعينات. عدا عن أن هذا السلوك سيقود في النهاية إلى شلل تام في البلاد.
والغريب أن هناك عدداً لا يحصى من المستشارين وأهل الخبرة، إلا أن أحداً منهم لم يستطع أن يقدم حلولاً مجدية، كالتي لجأت إليها تلك السيدات. رغم أن آفاق العمل في العراق واسعة ووفيرة. ومعنى ذلك على الأرجح أن هؤلاء لا يمتلكون الأهلية لشغل هذه المراكز. فقد كان من السهل عليهم اختبار عينات من الخطوط الإنتاجية المتوقفة، وإعادتها للحياة، بدلاً من الوقوف والولولة والبكاء.
بل أن مشاريع صغيرة وسريعة يقوم بها بعض أصحاب الأموال، قادرة على علاج هذه المشكلة. أو الحد من تبعاتها على المدى القريب. مثلما هي قادرة على إصلاح الوضع في المستقبل البعيد. فهذا هو ما تلجأ إليه الدول في مختلف بقاع المعمورة. وأعرف أن هناك طموحات واسعة لدى الكثير من هؤلاء لكنها تتراجع أمام تخلف الأجهزة الحكومية. وسعي موظفيها للعودة بالبلاد إلى الوراء، أما بالابتزاز أو اللصوصية أو الفوضى. ولو شاءت الحكومة أن تنقذ وضعها المتدهور مالياً فإنها تستطيع أن تلجأ إلى حماية هذه المشاريع، وضرب نطاق أمني حولها، ومنع أصحاب النفوذ من وضع العقبات أمامها.
إن مجموعة منتقاة من أصحاب الضمير الحي قادرة على منح رجال الأعمال الفاعلين الطمأنينة اللازمة لإطلاق مبادراتهم الخاصة، وإنقاذ البلاد مما انتهت إليه على يد مؤسسات حكومية مترهلة. أما التفاؤل الزائد بشأن ارتفاع أسعار النفط الخام في السوق العالمية، فهو مجرد أمل خادع، يقدم راحة نفسية لملايين المحتاجين. لكنه ليس العلاج السليم. فسوق النفط لا تثبت على حال، وهي ما أن ترتفع حتى تعاود الهبوط مرة أخرى.
لقد تمكنت أرض وادي الرافدين من إطعام مئات الملايين من البشر الذين استوطنوها منذ آلاف السنين. ولم يعان هؤلاء من بطالة أو جوع أو فاقة، إلا في أزمان الحروب أو الأوبئة أو الفيضانات الخارجة عن السيطرة. وبوسع هذه الأرض مد العراقيين في هذا العصر بما يحتاجونه من غذاء وخامات ومأوى، مثلما فعلت من قبل.
إن الضمير الإنساني لن يكون في كامل عدته إذا لم تنطلق التنمية الحقيقية من عقالها، وتسود قيم العمل والإنتاج من جديد. أما المشاكل والعداوات وفساد الذمم فهي مجرد عاهات ستزول، حينما يتحول الفرد العراقي إلى مواطن منتج نشيط ومتحفز للعمل.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com