فضيلة الفاروق
يثير الطفل ابن الثلاث سنوات إعجاب والديه ودهشتهما وهو يمسك بالهاتف الذكي ويكبس أزراره بخفة عجيبة، مشغِّلا تطبيقات الألعاب بسهولة. ويزدادان دهشة كلما توقف طفلهما عن البكاء بمجرد وضع الهاتف بين يديه، إنّه السحر بعينه.
سابقاً كان الطفل في نفس العمر لديه نشاطات كثيرة تنمي جسده وعقله، مثل اللعب مع إخوته، أو الثرثرة مع أمه أو أبيه. وقد كان ذلك كافياً لتوسيع قاموسه اللغوي، وتطوير لياقته الجسدية، أمّا اليوم فقد تقلّصت ساعات حركته وكلامه أيضاً، وهذا ما يجعلنا أمام ظاهرة تنذر بالخطر، فقد أشارت دراسات غير مكتملة أن حجم الإنسان قد يشهد تغيرات شكلية في ظرف نصف قرن فقط، منها زيادة وزنه وقصر قامته وعجزه عن التعبير جيداً عمّا يدور في رأسه لغوياً، وهذا يترتب عليه مزيد من ممارسات العنف.
وتذهب توقعات أخرى مبنية على قراءة معطيات الحاضر، أن إنسان القرن القادم سيكون له عقلان، عقله البشري وعقله الإلكتروني المتسع لكم هائل من المعلومات مع إمكانية التواصل بينهما بتقنية التخاطر. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا، ما عواقب حصول الأشرار على عقول إلكترونية فائقة الذكاء على البشرية؟ وكيف سيتصرف الإنسان في حالة ضياع أو تعطل عقله الثاني؟ وفي حضور هذا العقل البارع هل ستبقى العلاقات الإنسانية على حالها؟
إن عدنا للطفل الذي تحدثنا عنه سابقاً سنكتشف أن التكنولوجيا لم تكتفِ بتحقيق إشباع عقلي معرفي للإنسان بل تجاوزته للإشباع العاطفي. وأكثر من ذلك أن هذا الطفل على ثقة أنه سيطر على والديه، على عكس اعتقادهما بأنهما مسيطران على الوضع. يفعل ذلك بالاستثمار الكامل في انفعالاته السيئة، وتوتره العصبي، وغضبه.
يضيف طبيب الأعصاب ليونيل نقّاش أن ما يخيفه أكثر هو “عجز العقل البشري على استيعاب طوفان المعلومات، الذي لا تستطيع عقولنا السيطرة عليه، وهذا بإمكانه خلق اضطرابات جماعية على مستوى المجتمع تشبه تلك التي تصيب مرضى الصّرع”.
الغريب أن قراءة الكتب الورقية لها تأثيرات إيجابية على العقل البشري عكس تأثيرات الشاشات الذكية التي اكتسحت العالم، إنها تنشط الدماغ، وتحفّز العقل ليبطئ أمراضاً مثل الزهايمر والخرف وربما توقفها تماماً، كما تخفف من التوتر الناتج عن ضغوط الحياة المعاصرة، وكثيراً ما ينصح بقراءة فصل من كتاب قبل النوم لأن تأثيراته تشبه تماماً تأثيرات المهدئات الطبيعية دون أي أعراض جانبية.
تحافظ القراءة على قدرات العقل، وتجعله يستغني عن “العقل الثاني” الذي سيضطر مستقبلاً إلى حمله معه، فالمعلومة التي نقرؤها من كتاب ورقي أكثر ثباتاً في الذاكرة من المعلومة الإلكترونية التي نحصل عليها مكثفة بحيث يصعب الاحتفاظ بها.
غير ذلك لا شيء يحمي اللغة من الاندثار غير الكتاب الورقي، لأن الثورة الإلكترونية لا تعنيها اللغة، بقدر ما يعنيها إيصال الفكرة بالصورة والصوت.
الرياض
عذراً التعليقات مغلقة