أزمة ديون عميقة في أوروبا

2 مارس 2021
أزمة ديون عميقة في أوروبا

 محمد كركوتي

  
“التعافي المنتظر في أوروبا سيتأخر قليلا”
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي
يواجه الاتحاد الأوروبي مشكلات أكبر من تلك التي يواجهها بعض الدول المتقدمة في مسألة التعافي المأمول من الأزمة الاقتصادية التي أحدثتها جائحة كورونا. وهذه المشكلات تنتشر بقوة على ساحة دول منطقة اليورو الـ 19. ورغم أن بعض التوقعات تتحدث عن تعاف يبدأ منتصف العام الجاري، إلا أن هناك مؤشرات عديدة تدل على أن هذا التعافي لن يظهر على الساحة قبل نهاية العام. فالانكماش الذي ضرب الاقتصاد الأوروبي مرتفع جدا، وهو متباين بالطبع بين دولة وأخرى، إلا أن الجميع في مركب واحد وقت الأزمات. ولا شك أن القادة الأوروبيين الذين يختلفون عادة كثيرا في مسائل تخص حزم الإنقاذ لهذه الدولة أو تلك، لم يختلفوا كثيرا في التوصل إلى خطة دعم تسند الاقتصادات الأوروبية كلها، بما فيها تلك الكبيرة.
كان الاقتصاد الأوروبي عموما يعيش قبل انفجار جائحة كورونا حالة نمو منخفض، وكان يعاني كثيرا الثغرات والاهتزازات. ومع بروز الأزمة الاقتصادية الراهنة، دخل هذا الاقتصاد مرحلة انكماش. ورغم أن هذا الاقتصاد انتعش، كغيره من الاقتصادات العالمية في الربع الثالث من العام الماضي، إلا أنه سرعان مع عاد إلى الانكماش. والسبب الرئيس في الانتعاش المشار إليه، يعود إلى فتح الاقتصادات الأوروبية بصورة كبيرة في الصيف الماضي، وتراجع نسبة الإصابات بفيروس كوفيد – 19. لكن في النهاية كانت فترة قصيرة، اضطرت أوروبا بعدها للعودة إلى الإغلاقات الكاملة أو شبه الكاملة، وأخذت تعلق الآمال على ظهور اللقاحات المناسبة ضد هذا الفيروس. حتى عندما ظهرت هذه اللقاحات، كانت هناك فوضى عمليات التلقيح، بل تأخر الحصول عليها.
الانكماش يسود الدول الأوروبية كلها دون استثناء حاليا. فقد وصل – وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – إلى 12 في المائة في إسبانيا، وبلغ في فرنسا وإيطاليا 9.1 في المائة، بينما سجل في ألمانيا 5.5 في المائة. حتى في بريطانيا التي صارت أول هذا العام خارج الاتحاد الأوروبي بلغ الانكماش 10 في المائة. وهذا يبدو طبيعيا، إذا ما أخذنا في الحسبان أن الركود العالمي الحالي يعد الأعمق على الإطلاق منذ 100 عام. وربما يتحقق بعض النمو على الساحة الأوروبية قبل نهاية العام الجاري، إلا أن المؤشرات كلها تدل على أن وضع الاقتصاد الأوروبي لن يعود إلى مستوى ما كان عليه قبل الجائحة حتى منتصف العام المقبل. فالنشاط الاقتصادي لا يزال مضطربا، بل متوقفا في بعض الدول.
لا شك أن حزمة الإنقاذ الكبرى التي بلغت قيمتها 750 مليار يورو، لمساعدة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على مواجهة الانكماش الاقتصادي ودعم المسار للتعافي من الركود، كانت ضرورية في تخفيف المحنة الاقتصادية عموما. حتى إن كريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كانت تعمل وتدفع باتجاه إقرار الخطة بأسرع وقت، وكانت حريصة على أن تذهب أموالها في القنوات التنموية. ومضت أبعد من ذلك عندما حذرت من ارتفاع التكاليف الإدارية لهذه الخطة المحورية. وهذه الأموال ذهبت بالفعل إلى مستحقيها على شكل قروض ومنح، فضلا عن توفير الحماية اللازمة لمؤسسات وشركات أساسية، والحفاظ على زخم قطاعات بأكملها. وفي الربع الأول من العام الماضي تم إطلاق برنامج طوارئ شراء السندات في ذروة الموجة الأولى للوباء.
إلا أن الديون تراكمت بالطبع على جميع الدول الأوروبية. فقد وصلت في كثير من هذه الدول إلى أكثر من 100 في المائة من حجم ناتجها المحلي الإجمالي. وبلغ مجموع ديون منطقة اليورو وحدها أكثر من 11 تريليون يورو. ولأن هذه المنطقة وغيرها من مناطق العالم تعيش أزمة اقتصادية متفاقمة، فقد عطل الاتحاد الأوروبي شرطه المفروض على الحكومات أن يبقى العجز لديها أقل من 3 في المائة من الناتج المحلي، والدين العام أقل من 60 في المائة من هذا الناتج. ولا شك أن تعليق هذا الشرط سيستمر فترة طويلة، إلى أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الجائحة العالمية. وهذا لن يتحقق بالطبع دون أن يعود الحراك الاقتصادي إلى طبيعته، والأمل يكمن دائما عند المسؤولين في كل مكان، في نجاح استراتيجية اللقاحات ضد الفيروس، وفي سرعة إتمامها.
المشكلة التي ستبقى حتى بعد أن ينتهي العالم من كورونا، هي تلك المتعلقة بالديون. وهذه الديون في منطقة اليورو خصوصا، وفي الاتحاد الأوروبي عموما، ستبقى عبئا كبيرا على كاهل الاقتصاد الأوروبي. فكما نعرف جميعا، فإن التخلي عن قيود الاستدانة والإنفاق، لمواجهة تبعات الأزمة الاقتصادية الراهنة، سيوجد في الأعوام المقبلة أزمة مديونية على الدول المتقدمة كلها، ولا سيما تلك في الساحة الأوروبية. ومشكلات الديون هي من أطول المشكلات التي يواجهها أي اقتصاد في العالم، لكن لا أحد يفكر فيها الآن، في ظل أزمة اقتصادية عميقة إلى درجة أنها فاقت في قوتها منذ أيامها الأولى تلك التي انفجرت عالميا عام 2008.

الاقتصادية السعودية

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com