انيس السعيدي
كاتب ودبلوماسي عراقي سابق
( هذا الغريب امنين ؟ )…
عام 91 وأنا رهن الإعتقال ، زارنا مسؤولٌ أمنيّ يهمس في أذن مأمور السجن ، يرسلان أنظارهما نحوي ، ولاأعرف كيف ساقت الريح الكلام اليّ ، رغم أني لاأجيد استراق السمع مسافاتٍ بعيدة ، يجلسان في مقدمة المعتقل ، وأنا قابعٌ في نهايته ، أسند ظهري الى الجدار أقرأ كتاباً لايفارقني :– هذا أنيس ، صدر بيه قرار الإعدام ، بس المشكلة ماكو مكان آمن انفّذ بيه الحكم ، نخاف من امريكا تقصفنه ونروح فطيس بسبب هذا ال ……
دارت بيَ الأرض خمسة آلاف دورة في ثانية واحدة ، ولكني استرجعت توازني ، أسأل نفسي لو طلبت مني هيأة التنفيذ قراراً نهائيا :– ماذا تريد قبل الموت ؟… سأجيبهم : أتمنى أن أرى أبنائي ، ولكني تراجعت ، فلا أريدهم أن يروني مهزوماً مضرّجاً بدمي…
صباح كل يوم يعاودنا المراسل ، نوصيه حاجاتٍ لنا وشؤونا ، وكل مايحتاجه سجينٌ مغضوبٌ عليه ، فإذا وصلني السره ، إستفسر مني الفتى :– وانته شتريد استاد ؟… ناولته گصگوصة كتبتُ عليها (الحب في زمن الكوليرا ) غابريل غارسيا ماركيز ، قرأتُ الدهشة في وجهه الصحراوي الرشيق ،
تابعت حديثي مغلّساً عمّا في محيّاه :– تروح لمكتبة أبو طه بشارع السعدون وتگله : دزني عليك أستاذ أنيس ، يريد هاي الرواية ، وهوه يطلّعها إلك من جوّه الگاع ، بس أصبر عليه شوية ! … في المساء كاشفني زميلي في الحبس ، موضع أسراري ، أنّ المراسل صارحه الرأي حينها :- هذا صاحبك أستاد أنيس شگد فطير ، هوه محكوم عليه بالاعدام ، وجاي يقره روايات وكتب ؟..
. لا تعلمون حجم فرحتي وأنا أستلم القصة ، أكملت قراءتها يوماً وليلة ، أسابق الموت في إنهائها قبل أن يفاجأني الإعدام حكماً مقضيا ،
توّجه كبيرهم تهديداً غليظا :– والله شواربي مو عليه ، إذا ماأعدمو لهذا المتآمر ، يتهجّم ع السيد الرئيس القائد !!– فإطلقت الرد ، لم يجرؤ أحدٌّ إيصاله :– هوه عنده شوارب ، وآني عندي شوارب ، وراح نشوف منو اللي راح يزيّنهن بالأخير ؟.
تزوج بدويٌّ عراقيّ لبنانيةً جميلة ، لاتجيد طبخاً ولاشويا ، تعودا يتناولان طعامها دليڤري ، طالما تسعده في الفراش لياليا ، عاد ذات مساءٍ أوعدته يتعشيان في البيت تطوعاً وكرما ، تفاجئه عن الوجبة إعتذارا ، إذ إنشغلت بشعرها تسريحاً وأظافرها طلاءا ، فأرعد وأزبد ، يغادرها الى السرير انفرادا ، حتى مضى من الليل شطره ، إشتاقت الى مضاجعته غزلاً حميما ، كشفت عنه الغطاء تداعبه غنجا :– لك تئبرني حبيب ئلبي،كرمال الله ، أعملك مساج إزا بدك؟… إنتفض صاحبنا القحيح عراقةً ، يزيح عن رأسه لحافاً سميكا ، يهددها رجولةً وثبورا :– والله إذا سويتي مساج ، إلاّ أشمره بالشارع هوه والجدر !
قبل يومين إستفزّني متأسلمٌ ، يقتحم دكاني ، يكرّ حبات سبحته السوداء ، يتمتم تراتيلا ًحبستها شفتاه :- هاي شجاي تقره أستاد ؟- جاي أعيد قراءة (هكذا تكلّم زرادشت ) فريدريش نيتشه ، درسناها أيام الكلية باللغة الألمانية ، عسيرة الفهم حتى على الألمان فلسفةً وربما لغةً أيضا… هزّ الرجل رأسه يميناً وشمالا ً يحتجّ صلافةً :– هاي بدل ماتقرا أدعية وزيارات ضد هاي الكوروناوتسجدلك نص ساعة ، جاي تقرا كتب مال كفار ؟… إختصرت الطريق إليه تماماً– إتفضل اطلع برّه ، لاأشمرك بالشارع أنته والجدر مثل مساج صديقنا البدوي العراقي ؟
ومن البليّة عذلُ من لايرعويعن غيّه ، وخطابُ من لايفهمُ… وأنا أنهي كتابة هذا المقال جهداً وإعياءا ، جثمت أمام دكاني سيارةٌ تطال سماءا ، لاأعرف لها ثمناً فتاءا ، صفعتُ قائدها ثمانينيات القرن الماضي مراراً إداءا ، لقذارة أنفه ومن دراسته غباءا ، يخاطبني شمخرةً لواءا :– من رخصتك حجي ، بلكي باكيت أيسي ؟… خرجتُ إليه ، أناوله السجائرَ قبضةً نجلاءا، إستلمها لايطيق رؤيتي مغبةً وجفاءا ، تحامل يناجزني سناءا :– تعذرني خالي ، ماأگدر أنزلك ، لابس حذاء جديد ، أخاف عليه يتوصخ ، وآني عندي إجتماع حزبي — لا على بختك ، سلامتك أستاذ ، إنته والحزب والقندرة ؟… شحط مركبته غضباً قذاءا ، يروم المريخ لو شاء اعتلاءا ، وصوت باسم الكربلائي يصدح عتباً شقاءا :– هذا الغريب امنين ، وين اهله راحوا وين ؟؟يأيّها السيفُ المجرّدُ …… في الفلايكسو السيوفَ على الزمان مضاءا( ستون ) ، لو ركبت مناكبَ شاهقٍلترجلت هضباتُه ………….. إعياءا… ليست الأعجوبة في أن تنجو من الموت… ولكنها في أن تصارع الحياة بلا سلاح ،،… هكذا تكلّم أنيس !!
عذراً التعليقات مغلقة