سِفر حياة أم سِفر تكوين ..قصة قصيرة من المغرب

26 مايو 2021
سِفر حياة أم سِفر تكوين ..قصة قصيرة من المغرب

 قصة قصيرة 

                                  سِفر حياة أم سِفر تكوين 

                                 

                                            

رشيد سكري  

كاتب من المغرب

     انزوى خلف الباب ، ووراء تلك الكتب الصفراء ، كان يتملى العالم مثل فيلسوف ضاقت به الحياة والسبل . إنها قرطبة الأجداد ، فما عسى أن يفعل ابن حزم لولا ” طوق الحمامة “؟ وماذا ينوي ابن رشد ، إذا ما اعتزم الرحيل إلى ضفاف إشبيلية الأثيلة ، أو إلى غرناطة الأبية ؟ هذا … صراع شبَّ بين المعتضد والمعتمد ؛ قريبا منا بعيدا من على موائد يوسف بن تاشفين ، بيْد أنه جعل من الخبز واللبن موال عشق للحياة .

  نفض عن ثوبه غبار سِفر قديم ، ودخل سردابا مدلهما ، وهو مقوس الظهر . في يده فانوس من زيت الأكيمول جلبه من مجاهل إسبارطا ، عندما كان صانع الحصير بشجرة الدوم العتيقة على مشارف وادي الهدير. ها هي العتـْمة غلفت المكان في دثار أسود الطيلسان ؛ ينزع الليل سريعا ضوء النهار من صحن السماء . رائحة الكتب الصفراء العطنة تنغل خياشيمه ، وفوق أرنبة أنفه استوت بقعٌ حمراءُ ، كما لو أنها لسعات زنابير . سعل قليلا ثم مد يده إلى رفوف مكتبة قديمة ، فتحت أمامه منادحَ المعرفة ؛ أزال منها مدائحَ المتنبي في مدح ابن حمدان . وذخائر ابن عبد ربه ، ثم استوى على عرش الشعر في ستة أنامل عجراء .

ـ يا معتمدُ ، يا ابن عباد …  أيها الشاعر ؛ عش كريما ، وأنتَ للكرم أهل .

  من زقاق ضيق يصاقبُ مدار ابن زيدون العتيق ، وفي ذلك المنحدر الغابش برذاذ يصَّعَد كالبخار ، سمع صوتَ نحيب ؛ إنه صوت امرأة ، وطقطقات حوافر خيول ألفونسو تجوب دروبا و شوارعَ قرطبة . بخوف وهلع ووجل ، دفع الطاقة الصغيرة ، واشرأب بجيده الطويل من على شرفة قديمة ، فشاهد سدنة المعابد ، وقد تحلقوا حول امرأة مسكينة . كانت تزحف على بطنها ، وهي تقبل أقداما  ، في بكاء ممزوج بالنحيب ، كان أحدهم يتلو سفرا باللغة القشتالية ، فهمت أنه الحكم ، الذي قضي به ؛ إنه السَّحـْل حتى الموت .    

  دمها سيروي دروب ، وأزقة قرطبة. 

  بالقرب من مخارج المدينة ، جهزوا خيلا بركاب ذهبي ، ذا قوائم محجلة ، سريع الفطنة ، نزق ، شرارته مخاتلة ، يرشق المارة بعيون واسعة من تحت شعر أشمط فضي ، تبادل الناس الرؤية باستهجان ، وازدراء .

نطق غفير من الناس ، بصوت هامس . قالوا بتوتر : 

ـ مسكينة هذه المرأة …

ـ ما ذنبها ؟

أجبتهم من الشرفة المطلة على الساحة ، كنت على بينة من القشتالية ؛ لغة تعي حكما  وقضاء  .

ـ وجدوا بحوزتها سفرا قديما …

ـ وما طبيعته ، يا رجل ؟

أجبتهم ، بصوت مهيض ، حتى لا تتبين معالمه و إشاراته 

ـ ميراث ، ميراث إبراهيم .

أحسوا بالضيق يجثوا فوق صدورهم جميعا ، فتمنوا لو ابتلعتهم الأرض . 

فأعقبتهم بكلام يرجمهم كالشياطين …

توقفوا !  توقفوا !          

ـ إنه هو الذي سمانا المسلمين ، وفي ذريته النبوءة و الكتاب .

فعدت من حيث أتيت ، انحدرت في رذاذ غلف المكان ، إلى أن ابتلعني صمت قرطبة .    

القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب – لندن     

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com