محمد بومهدي
ـ قاص من المغرب
بعد الصلاة يخبر أحدهم الفقيه سي احمد، بأن الساحلي سيقيم وليمة ختان لحفيده الذي لم يبق بينه وبين الصيام إلا أيام، وأنه لن يؤجل الختان هذه المرة كما كان يفعل في المرات السابقة، فقد اختار الصيف موعدا له بدلا من تلك المواعيد التي كانت تصادف الشتاء، بسبب من أن الختان في مثل هذه الأوقات الباردة قد يؤذي الولد.
يفرح الفقيه سي احمد لمثل هذه الأخبار، مادام حضوره ضروري في مثل هذه المناسبات التي تتيح له أن يغير من نمط وجبات الطعام وإكرام معدته من اللَّحم المُمَرَّق، الذي تكون له صورة عجيبة وهو بارز في الأطباق، وفضلا عن ذلك فهو فقيه الدوَّار* الذي يتولى ذبح شياه الولائم في بلا منازع، والناس يعيبون ولائم العقيقة والختان والأعراس والعيد الكبير إذا لم يحضرها سي احمد ويقم هو بعملية الذبح.
اشترى الساحلي من السوق نعجة وكيسا كبيرا من البصل، وقال لزوجته إن هذا الختان حبذا لو أجلناه إلى الخريف فالسوق يكوي بالغلاء، والنعجة نكسبها حتى تلد ونعيد بيعها فنربح ثمنها وخروفها معا. فقالت له زوجته: “هل ذهب عقلك؟ إلى متى سنظل نؤجل هذا الختان والولد صار سنه أقرب إلى الزواج. نعجة سيخلفها الله. ماذا ستقول طامو ورقية إن لم نُخَتّن الولد في هذه المرة أيضا”. فقال لها: “كفى اصمتي، سأكلم المعلم الحجَّام في السوق المقبل. أنتن النساء لا يقدر عليكن أحد”.
في السُّوق يتخذ المعلم الحجَّام* من قيطون* صغير مكانا له ليقصده النَّاس الذين يرغبون في تختين أبنائهم، وهو ينحدر من دوار بعيد، ويشاع عنه أن يده جيدة وفيها البركة وأن أغلب شباب ورجال القرية بدواويرها مَرُّوا على مِقَصّه.
يقصده الساحلي ويخبره بموعد الختان، الجمعة المقبل بعد الصلاة مباشرة. يرحب الحجام بالدعوة، ويدعو الله أن يُيَسّر الأمور ويُكَمّل بالخَير.
خبر ختان حفيد الساحلي يطير في الدوار، ويصير حديث المجالس، وبخاصة مجالس النساء في عين الشاقور، تقول إحداهن: “امرأة الساحلي الله يكمل عليها بالخير امرأة طيبة، هي التي تحمل هَمَّ كل شيء، وكأن الولد بلا أمّ، المسكينة هي التي تَولَّت دعوتنا لحضور الختان أما تلك الصَّمكَة* أمُّه فلم تُكلّف نفسها حتى عناء النظر في وجوهنا”. وتقول أخرى: “امرأة الساحلي هي أمّه الحقيقة، أنا لن أعطي السُّكَّر إلا لها وفي يدها، هي جاءت عندي في عرس ابني وعقيقة ابنه، وعليَّ أن أردَّ لها قالبين من السكر، العَرْبي إن سمع بهذا سيطلقني”.
بعد صلاة العشاء من يوم الخميس يٌذَكّر السَّاحلي الفقيه سي احمد بوليمة الغد وأن عليه الحضور مباشرة بعد الصلاة، فيقول له سي احمد بأن لا حاجة له إلى تذكيره بمثل هذا، وقد أثنى على فكرة ليلة الطّلبة* وقراءة أوراد من القرآن الكريم.
في غرفة جانبية من منزل الساحلي تجلس أم الولد وهي ترتدي ملابس الفرح ولو أن ملامحها يكسوها الحزن على ابنها الذي يجلس بالقرب منها وهو يرتدي قندورة بيضاء وفوقها سلهام أخضر وطربوش أحمر تتوسطه نجمة خماسية ذهبية، وفي رجله بلغة صفراء جديدة، مكحل العينين ومُخضَّبَ اليدين والرّجلين بالحناء. تدخل جدة الولد وتحضنه وتقبل حنكيه: ” الله الله على النوَّار، الفنون خارج من المُدن.. الله يحجبك أوليدي، خمسة وخميس عليك” تبدأ أمه بالبكاء، فتنهرها الجدة: “لا تبكي أمام الولد”.
تتصاعد زغاريد النساء، وبالقرب من الولد صينية مليئة بحلوى الفانيد والبيض المسلوق. الولد ينظر إلى الصينية، ويتعجب كيف تتحول الأمور بهاته السرعة، بين عشية بالكاد يجد فيها قطعة خبز، وبين صبح يرى فيه كل هذا البيض والحلوى، هل يعيش في حلم أم في حقيقة؟
تمنع الجدة بعض النساء أن يدخلن على الولد خوفا عليه من العين، وهي تعرف أكثر من أي أحد أن بعضهن لا ينظرن بعين الرحمة، وأن عيونهن مثل البنادق الصدئة لا تترك وراءها إلى الغبار.
أول من يَصل من الجامع الساحلي ومعه سي احمد الذي ذبح النعجة في الصباح. وقريبا سيبدأ الرجال بالقدوم. المعلم الحجّام في الغرفة الكبيرة حيث سيجلس الرجال وأمامه صينية كبيرة عليها براد شاي وعدد كبير من الكؤوس، بين فينة وأخرى يخرج ليتفقد حماره الذي ربطه إلى جذع شجرة بالخارج.
يجتمع الرجال في الغرفة الكبيرة وفيهم المعلم الحجّام وسي احمد الذي سيتولى مع آخرين تلاوة القرآن الكريم والأذكار قبل الاتيان بالولد وتسليمه للمعلم.
الساحلي جَدُّ الولد لا يحب هذا الوقت بالضبط، يحس بدقات قلبه تتسارع وكأنه في مواجهة مع شيء مجهول، ويصير أكثر عصبية ويمكن أن يضرب أي كان إذا ما استفزّه.
تدنو منه زوجته وتقول له: “مالك تصير هكذا، أطلق وجهك، لن يكون إلا الخير” فيقول لها بغضب:
” ليس شغلك، ادخلي إلى الداخل”. فتغير من ملامحها وتقول” باز على رجل”.
مجلس الرجال في الغرفة الكبيرة يعلو بالأذكار، ومجلس النساء في الغرفة الصغيرة يعلو بالزغاريد وبعضا من الدموع.
يشير سي احمد إلى الساحلي أن يأتي بالولد. يرتبك الساحلي وينظر إلى المعلم. يؤكد عليه المعلم أن يأتي بالولد. يجلس المعلم في ركن من الغرفة. يُطلب من رجل قوي من أقارب الولد أن يتهيأ لحمله بين يديه. يُعد المعلم مقَصَّه الذي يجعل الرجال الذين من حوله يسرحون بخيالهم إلى ماض بعيد، ويستشعرون خوفا غريبا، ويتعجبون كيف أنهم صبروا لمثل هذا.
يدخل الساحلي على النساء، يحمل حفيده بين يديه، يُقَبّله ويقول له:” ألا ترى كم عندك من الحلوى، سنزيدك حلوى أخرى” النساء يطلقن الزغاريد، الجدة تأمرهن أن يصلين على النبي. أمه تختبئ في مكان من الغرفة حتى لا تسمع شيئا من صراخ ولدها.
يجعل الساحلي حفيده بالقرب من أحد أعمامه. المعلم يبتسم في وجه الولد” تبارك الله، تبارك الله، الله يصلح..” ثم يشير على الساحلي أن يدنو منه وقال له في أذنه أن يأتيه بالمنديل الأحمر.
يرجع الساحلي إلى زوجته غاضبا: ” أين المنديل؟ الله يخليها سلعة”. تهرول الجدة إلى الداخل، وتأتيه بالمنديل، وتقول له” ها المنديل، الله تبقي الستر”. ينظر إليها الساحلي بنظرات يتطاير منها الشرّ، ثم يعود بالمنديل إلى الغرفة الكبيرة.
يجلس الولد في حجر عمّه، ينظر إلى الرجال الذين ينظرون إليه، يطلب المعلم من العم أن يدنو منه ويواجهه، يخبئ المعلم المقص وراء ظهره. ثم يغمز العم.
يقول العم لابن أخيه:” إبراهيم، أنظر إلى السقف، يوجد طائر” ينظر إبراهيم إلى السقف ليرى الطائر، لكنه لم ير أي طائر، بل أحس أن شيئا طار منه حتى كاد يطير معه.
****
نادى الساحلي على زوجته يسألها عن الغذاء، فجاءت إليه وقالت له: ”قريبا سنأتيكم به”، وسألها عن حال الولد؟ فقالت له:” الولد بخير، كل شيء بخير، الحمد لله على هذه الساعة”.
قدمت امرأة إلى باب الغرفة الكبيرة وهي تحمل قصعة كبيرة من الكسكس بالبصل وقطع اللحم. نادت على زوجها أن يخرج ليأخذ منها القصعة.
سي احمد يجلس على المائدة التي يجلس فيها المعلم الحجّام مع رجال آخرين، يغطس يده في قصعة الكسكس ويُكوّر منه ما يملأ فمه، ثم يتبعه بأخرى، ومثله يفعل الآخرون، إلا اللّحم يتركونه إلى أن يتولّى سي احمد تقسيمه بينهم بالتساوي، يقول له أحدهم وهو يتلمّظ وينتظر بفارغ الصبر وقت القسمة:” سي احمد أقسم هاته البركة” فيرد عليه السي احمد:” أقسم أنت، توكل على الله”. فيقول آخر:” لا سي احمد ، أنت من سيقسم”. ثم يقسم لهم سي احمد.
يدخل عليهم الساحلي ويقول لهم:” بصحتكم ، اقبلوا علينا..” فيردون عليه بإجماع:” وهل هناك أكثر من هذا الخير؟ الله يكمل بخير”.
في خارج الدار يتجمَّع عدد كبير من الأطفال، يُشكّلون دائرة حول مَيدُونَة* ينتظرون امرأة الساحلي أن تأتيهم بالكسكس، بطونهم تزغرد من الجوع. تضع القصعة وسطهم، وتقول:” كُلوا، كل واحد يأكل مما يليه، واللَّحم سأعود لأقسمه بينكم”. بمجرد أن وُضِعت القصعة حتى تطايرت أيادي الأطفال تتسابق إليها، يتمنى أحدهم لو يأكل بكلتا يديه، كل واحد منهم يريد أن يأكل أكثر من الآخر، فيتعمدون عدم المضغ ليبلعوا الكسكس أكبر عدد من المرات. وفجأة رأوا أحدهم يقطع شنتيفة* من لحم، فصرخ آخر ينادي على امرأة الساحلي، فجاءت إليه:” مالكم؟” فقال لها الطفل وفمه مملوء عن آخره بالكسكس حتى مَرَّغ حنكيه به:” هذا أكل اللحم”. فقالت للذي أكل اللحم:” تربية هجيج*، ألم أقل لكم حتى أعود وأقسم بينكم”. وشرعت تقسمه بينهم. ثم لما ذهبت قال الذي بدأ بأكل اللحم للذي وشى به:” ها هي فيك، حتى تخرج .”.
خرج المعلم الحجَّام إلى حماره ليغادر وليصل إلى دواره قبل مغيب الشمس. جاء الساحلي إليه وأعطاه قالبين من السكر، وديك، وبعضا من الطعام لأبنائه الذين سيستقبلونه أثناء عودته.
ينظر بعض الأطفال إلى الحجَّام بخَوف وهو يخرج بحماره من دار الساحلي. قال طفل لطفل آخر صغير:” أنا مرّت نوبتي، أما أنت فسيأتي إليك في المرة القادمة، لنسمع صراخك ونأكل لحمك”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ الدوار: البلدة
ـ الصّمكة: الصماء، وهو وصف يراد به الاهانة
ـ باز : كلمة تستخدم لإظهار التأفف والتعجب
ـ المعلم الحجام: لقب يطلق على الرجل الذي يقوم بتختين الأطفال
ـ قيطون : خيمة صغيرة
ـ ميدونة : ترخيم مائدة مصنوعة من الدوم البري
ـ شنتيفة : قطعة صغيرة من لحم
ـ هجيج : يراد بها قلة الأدب
عذراً التعليقات مغلقة