أغلب الظن عندنا ، ودائماً، أنّ جائزة نوبل هي منحة مسيّسة ، ولأننا نؤمن بأن المؤامرة تبتلعنا في كل شيء فإننا وفاق هذا المنطق مستهدفون كعرب نفياً وتهميشاً عن نوالها في مختلف صنوف العلوم والفنون والآداب في كل مرة يحين ميقات منحها. قد يصدق الحدس ، ولكنه قد يصبح معضلة كبيرة إذا خاب ، فهي قد منحت لمبدعين عرب على قلتهم في أوقات سابقة ، وهي تستحضرنا وككل عام مضى إلى التنبه إلى مصير مرشح دائم لها منذ العام 1988 الذي له كلام آخر على الدوام . ففي الواقع لم يكن الكثيرون ممن منحوا هذه الجائزة بأفضل من أدونيس وهذا أمر يجب الاعتراف به ، كما أن بعضهم نظم الشعر بثيماتٍ تقليدية ، محافِظة جداً، لم ترقَ إلى فنية القصيدة ” الأدونيسية ” ولا إلى اتساعها لتشمل مواضيع الحداثة الشعرية في سماتها التي غزت العالم، والتي من المفترض أنها هي الواجهة الممتازة للشاعر العالمي الذي يستحق جائزة نوبل ، والذي يناضل طويلا بلغته الابداعية لابلاغ وتحقيق موقفه من قضية ما إنسانية منبثقة موضوعياً عن المعيش .
لم يكن ادونيس خادماً أميناً لمجتمعه الذي أعجب بقصائده وتآلف مع تطلعاته إلى العالمية ، كما لم يلتفت إلى هموم ذلك المجتمع ومشاكله ، من دون أن يعني ذلك أن قصائد أدونيس التي كانت مدار معضلات وجودية وثقافية لا تقل حضوراً وفاعلية في شعره عنها في شعر غيره . وعليه فقد بدا لأدونيس أنّ الأمر ليس بهذه السهولة في الشرق الأوسط .
إذ لا تكفي القيمة الاجتماعية للابداع عندنا لنيل جائزة نوبل ، بل يجب عليه استثمار الأوضاع السياسية المضطربة من حوله التي تتحكم بالمجتمع ، وما أكثرها ، للترشح والفوز، وليس الاكتفاء بالاعمال الادبية ذات الاشكاليات الخاصة بين الكاتب ومحيطه الضيق نصاً وروحاً ، كالحب ، والطبيعة ، والتباسات التفكير الوجودي وغيرها مما يشكل وجهات نظر خاصة بالمبدع . هنا تحسسَ أدونيس تطلعات الشعب السوري وآماله في التغيير كي لا ينافي شروط منحه الجائزة العتيدة ، واعتبر أنّ خروج الملايين لهدف ما مهما كانت منطلقاته في السياسة أو الاجتماع لهو مدعاة لاعادة حسابات الموقف الأدبي بل هو تأويل متجدد وانفعال بالواقع السائد يحتاجه أدونيس لاستكمال مشروعه الشعري على طريق الجائزة ، وهو ما يذكرنا تماما بانفعال الشعراء العرب بهزيمة 1967 التي أرّخت لتحولاتٍ هائلة في مسار الشعرية العربية بالتوازي مع فنون الثقافة الأخرى .
لم يتأخر أدونيس في محاولة تلبية ما رآه توجهاً سياسياً لأرباب الجائزة ، فنشرَ كتاباً ملتبس المعاني والعبارات ، موجَّهاً إلى الرئيس السوري في عام 2011 يطالبه فيه بأن ” يعيد الكلمة والقرار إلى الشعب ” من دون تبيان طريقة تحقيق ذلك ، ومكتفياً بالانتظار ردحاً من الزمن ، قبل أن يندفع ومع مرور السنوات وتضاؤل حظه بالجائزة إلى وصف شعارات الثورة السورية بالماضوية ، وكأن المطلوب من الشعب السوري المسحوق – شئنا أم أبينا – هو أكثر وأهم بكثير من تطلّعه إلى أن يأكل الخبز ويشبع الحرية ويستحلي الكرامة .
ربما ظن أدونيس أن الشعب السوري يملك ترف الاختيار والتنويع في أهدافه ، تماماً كالمواطن الفرنسي مثلاً الذي يعيش في الجادة الاولى بباريس وأحبّ أن يتظاهر لفتح حانوت لبيع السوشي في زوايا تلك الجادّة ! كما اعتبر أن تأطير الثورة في أهداف إنسانية كالحرية والعيش الكريم والكلمة الحرة ولو تحت سقف الدولة القائمة هي رؤية فاسدة ومتأخرة !.
كان زئبقياً بامتياز وذكاء ، والثابتَ والمتحوّل في مواقفه الوطنية تجاه مجاميع السوريين المنكوبين في الداخل والخارج ، ولكنه أيضاً الابن الضال الذي قد عاد عن غيّه ، وبسرعة ! وكان أن انتفت القيمة المعنوية المفترضة لحجم أدونيس كمواطن بالدرجة الأولى ، وكشاعر مثقف ، ورائد لتجربة نقدية تفيأت الفكر واستحقت مساحاتها من البحث والدرس على امتداد الوطن العربي ، ولكنها تأخرت عن تقصي النبل والقيم الانسانية اتجاه قضايا وطنية ملحّة ولو من باب المناورة السياسية .
الوطن الذي يراه شاعرنا من فوق ، بعيداً من الواقع ، الوطن الذي أنهكته الحرب وشوهته آلة الدمار ، والذي لم ينتفع يوماً بشيء من أدونيس المتلبّث في أرض التيه الكونية البعيدة في الجغرافيا والتاريخ عن الوجدان المجتمعي السوري .
إن كل ذلك وضع أدونيس في مواجهة الجائزة وليس مُريداً لها ، بعلمِ وقصدِ أو بغير علمِ وقصدِ الاكاديمية السويدية ، وصيَّرهُ أنموذجاً سائباً لجائزة وهمية أصبح انتظاره على بابها مملًّا جداً ، له ولنا ، من دون أن ننحاز إلى السيء النية الذي أوهم أدونيس ولا يزال بجدوى انتظاره لتلك الجائزة .
الحسام محيي الدين hmouhieddine@gmail.com
عذراً التعليقات مغلقة