فاطمة الزهراء المرابط قاصة مغربية.. عن العجوز الثرثارة والشقراء

30 سبتمبر 2021
فاطمة الزهراء المرابط قاصة مغربية.. عن العجوز الثرثارة والشقراء

قصة: ثرثرة

فاطمة الزهراء المرابط

فاطمة الزهراء المرابط

– أصيلة

قاصة من المغرب

المقعد الشاغر أمامي يدعوك للجلوس، تتردد قليلا، أمام باب المقصورة، تبحث بعينيك عن مكان يحتوي جسدك المتعب، ثم تستأذن في الجلوس أمامها، اللون الأحمر يدعوك لتأمل شفتيها وشعرها الكستنائي المتموج على كتفيها، تائهة تبحث عن نفسها بين أبطال الرواية، ترفع عينيها من حين لآخر، تتأمل المرأة الثرثارة، ثم تعود لتتدفأ بحروفها، غير عابئة بما يحدث حولها.

 نظرة عينيها كافية، لتحرك دقات قلبك الصامتة، المرأة العجوز لا تتوقف عن الثرثرة، الضجيج شقق الرؤوس والصمم أصاب الآذان الصاغية. تقطع أحلامك، تشتت أفكارك، عبثا تحاول تجميعها لتتأمل الفتاة الشقراء.

تفتح حقيبتك السوداء، تخرج مفكرتك الصغيرة، تسجل بضع كلمات بقلمك الأحمر، المرأة تواصل ثرثرتها الصاخبة، الحروف تتداخل في بعضها، والخيال العنيد يرحل بك في تجاه الشقراء تارة، والعجوز تارة أخرى، ستبحث عن مقصورة جديدة لتسبح مع أفكارك، لكن طيفها لا يفارق ورقتك البيضاء، ترسمها حروفا، وسطورا لا تنتهي…

الشقراء تنهض من مقعدها، عيناك تتابعان حركة جسدها، تخرج وراءها إلى الممر، ماذا يحدث لك..؟ أتنهد، أدخن سيجارة رخيصة، أتأمل تفاصيل وجهك الشاحب، تنتظرها أمام الباب، هل تفكر في لون تبانها وحمالات صدرها..؟ أم تفكر في بياض ردفيها وفخذيها..؟ طردت الفكرة من بالي ربما تنتظر دورك لتدخل المرحاض، وأنا هنا، أفبرك الأفلام الرومانسية التي لا تحدث إلا في خيالي المعتم بالصور السوداء.

تنتظر، وعيناي تنتظران معك، خرجت الشقراء، ازداد وجهك شحوبا، وأنت تتأمل وجهها، نظرت إليك بحيرة، اعترضت طريقها، احمرت وجنتاها، وزفرت في صمت، ربما هي لحظة كافية لتشحذ مخالبها، وتخربش وجهك الباهت، “أنتِ…” كنت تتمتم، الكلمات اختفت فجأة، نظرت إليك بنظراتها التائهة وابتسمت: “أنت…”، ارتمت بين أحضانك، دفنت وجهها بين ثنايا قميصك، أتأمل المشهد وتزداد حيرتي.

أسمع نحيبها من هنا “أين كنت أيها المخبول؟ بحثت عنك طويلا..” وكنت ترد عليها بنغمة حزينة وأنت تقبل أناملها الرقيقة، “القدر.. القدر”، أسترق السمع إلى المرأة الثرثارة، وهي تتحدث عن فلان وفلان، آه، لو كنت كاتبا لخرجت برواية سمينة من هذه المقصورة، عن حكايا المرأة الخيالية.

أشعلُ سيجارة أخرى، عيناي تتحولان رغما عني إلى هناك، كنت تتكئ على النافذة وعيناك شاخصتان إلى وجهها، هل هي حبيبتك المنسية..؟ “تبا للزمن، يبعدنا عن أحبائنا، يجهض أحلامنا الصغيرة، هذا الزمن ليس زمن الحب، بل زمن الدرهم والبحث عن الخبز الحافي…”، كنت أردد بحرقة كبيرة، أتذكرها وهي تلوح لي بأنامل مرتعشة والدموع لا تفارق عينيها، رحلت وحملت معها الدقات الهاربة من قلبي المثقل بالأحزان.

واقفا هناك تنظر إليها، تنظر إليك، وأنا أنظر إليكما معا، صمت وسكون يلف المقصورة، المرأة الثرثارة، سرق النوم صوتها، عيناها شاخصتان إلى الأسفل، خشخشة ونحيب يصلني من نهاية الممر، وارتطام بأرضية القطار يرن في أذني، أستعيد نظراتي من المقصورة وأوجهها إلى الشقراء، كانت تضرب صدرك وهي تنتحب في صمت، تغمغم بكلمات غير مفهومة “لم فعلت ذلك..”، وكنت تجيبها “القدر.. القدر..”، “الآن مستعد لتحدي القدر.. دموعك تفتت قلبي المكلوم..” تركتك وعادت إلى المقصورة، وهي تلملم أنفاسها المبعثرة وتميل برأسها جهة النافذة، تنتحب بصمت، صمتها يشبه صمت المقصورة، النوم يسيطر على الجفون والقلوب المتعبة، وأنا وحدي هنا، أصارع الصمت والليل، وسجائري الرخيصة وهي تحرق جسدي وتحوله إلى رماد…

تبحث في العتمة عن مقعدك، تصطدم بجسد المرأة الثرثارة، قبل أن تستقر في المقعد جوارها، تتلمس يدها، تعتدل في جلستك بجانبها، تقبض على أناملها المرتعشة، الباردة. كنت أحاول استراق السمع إلى الهمسات العاشقة، وأنت تقترب بشفتيك من شفتيها. القطار يتوقف، أتوجه إلى الباب، قدمي تدوس على شيء ما على الأرض، أنحني لألتقطه، إنه خاتم ذهبي أتذكر صوت الارتطام، أضعه في أصبعي، وأغادر القطار..

البرد يخترق جسدي الهزيل، المتعب بتقلبات الزمن، أشعل سيجارة أخيرة وألقي بالعلبة في سلة المهملات، نظري شاخص إلى العاشقين من نافذة القطار، ذراعاك تحيطان ذراعها ورأسها على كتفك، لوحت لكما بأناملي وتذكرت يوم ودعتني بالميناء، وأنا أتساءل مع نفسي: هل سترجع يوما…؟

القصة خاصة لصحيفة قريش –  ملحق ثقافات وآداب – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com