محمد زينو شومان في ديوانه ” مراوغاتُ الفتى الهامشيّ ” :
ملزمةُ حبّ متأودة بالأحاسيس
في لهفةِ الورودِ إلى ديوان ” مراوغات الفتى الهامشي ” الصادر عن دار الفارابي في طبعته الثانية 2018 للشاعر اللبناني ” محمد زينو شومان ” والذي أفتانا فيه بجدوى العبُورِ بينَ مرايا المساراتِ الثائرةِ والمُرسلَة منَ الذّات إلى الأرض فالحريّة والحُبّ ، فالمرأة ، فالوجود ، لا تخسيرَ مشهدياً عارياً ، رثَّ الدّلالاتِ ، بلِ انعكاسٌ فلسفيّ لمفهوم المساحةِ الزمنيّةِ بينَ الميلادِ والموت بما هوَ رسومٌ بيانيّةٌ للقهقرى بينَ مَنْبتِ الطفولةِ البريئة فالجُذْوة الشَّابة إلى مساربِ الحياةِ المُفْضيةِ إلى ما يلامسُ الرُّوحَ مِنَ العُزْلة ، وليسَ أبداً تطوُّراً جينيّاً تقدُّميّاً مُتَّقِدَ الرغبات ما دامَ ينتهي الى كهولةٍ فزوال :
كم أنهكني إصْري
فليُوضَعْ عني هذا الإصرْ
قدْ آنَ لمثلي أنْ يَنظرَ خلفَهْ
ليرى كمْ أنفقَ منْ رغباتِ العمرْ
هانتْ عندي كُلُّ الأشياءْ
حسبي في هذا الرُّكْنِ النّائي
أنّي طفلٌ في كهلْ !
كأنّهُ في كل ذلك حلّاجُ حضرةِ الشِّعْرِ بفصولِها الأربعة ، والتي يعتملُ فيها الصِّدقُ المُكثّفُ بالأحاسيس المُتأوِّدَةِ على ما فجّرَتْ فينا مِنْ ثورةِ الإلتفاتةِ واستراقِ التّضادِ مِنْ عناءِ الرُّوح :
غيابي حُلولي
أنا الأصلُ والظِّلُّ
الجزءُ والكلُّ
أُشرِقُ حين أغيبْ
أدورُ على محورِ الذّاتِ
مثلَ الرَّحى في الظلامْ
كأنِّي المُريدُ وقلبي الإمامْ !
كيمياءُ السّليقةِ ، صِنْوُها ، هُوَ محمد شومان ، ثائرٌ كونيٌّ غجريُّ القصيدة ، وفتاها الهاربُ من إِفْكِ الصَّنْعة وتَفَهِ الألاعيبِ اللُّغوية المُبَعْثرَة والمستهلكة ، يتنكبُ عن حواشي العبارات المُتعَبَة والمُتْعِبَة ، مبتعداً عن وجيبِ اللُّغةِ القَلِقَة إلى المُوَلَّدِ من استدلالاتها سبكاً مُحْكَماً جَزْلَ المَجاز الذي يُقاسمُنا شغفَ القراءةِ كمَلزَمةِ حُبّ وثَبْتٍ موسيقيّ تتسَوَّرُه التفعيلةُ إيقاعاً مُفرداً لقصائده التي إسّاقطت ممطرةً موسيقى الترسُّلِ بين القصيد وبيننا فأورقَتْ ألواناً شهيّةً من مفرداتِ قوسِ قزحٍ بيانيّ ، وأرتالاً شهيّةً مِنْ أحوالِ الفتى الحائرِ الذي تقاسمته الرُّوح بين أنا جميل وآخرَ شقيّ . ففي قصيدته التي عنونَ بها الديوان يطاردُ ذلكَ المتوحشَّ داخلَهُ وينازعُ عوادي التهميش والطَيْش ، ويحاولُ الانفلاتَ منْ ذلك الآخر نفِسِه : الفتى الهامشي المُراوِغ كيلا يخسرَ ذاته الحقيقية المُقْتبسَة من ولائه الريفيّ الطيّب ، رافضاً إفلاتَ ما حبَتْهُ الأيام وتوافرتْ عليه – لأجله – من فضائلِ الفِطرة الحبيبة إلى قلبه وعقله وإِنْ غوى ، وبعيداً من متاهاتٍ بحجمِ الغريزة:
لا تدَعُوني
لهذي النّوازعِ تُقحم بي في المتاهاتِ
إثْرَ المتاهات
لا تَدَعُوني لهذا الفتى الهامشيِّ المراوغِ
لا تدَعوني
لمنْ كان أخرجني ليلةً من ضواحي السّكينهْ
وبدَّدَ ما كانَ لي من حقولِ الشَّغفْ .
قصيدتهُ ” السُلَّم ” التي كتبها في والده الراحل يستنبتُ الشاعرُ دِمَنَ الشّوق لغيمةِ ذكرياتٍ مَطِيرَة ، كأغنيةٍ ريفيّةٍ مُهاجِرَة ، تسلسَلَتْ على سُلَّمِ الدُّنى الجميلة التي مَوْسَقَتْ حياتَهُ قبلَ أنْ تمضي بعيداً معَ الأبِ العتيد الفريد:
مسترجعاً دهشةَ البارحةْ
بكوفيّةِ الثلج كيفَ يلفُّ بها الرقبهْ
وكيف يشقشِقُ من راحتيه النهارْ
أفتِّشُ عن كَمَأ العِشقِ
وأسألُ عن سُلَّمٍ كمْ تجشَّم مثلي الشَّغَفْ
وأدرك فحوى طموحي وفحوى الهدفْ
صعدتُ أبي سلَّماً وهو يدفعني لاختصارِ المسافةِ
بيني وبين المنامْ
سلامٌ على سُلَّمٍ لم يزل ينتظرْ
… سلامٌ على السُلَّمِ المُنتظَرْ
ولطالما نعثرُ في غيرِ قصيدةٍ على جوازِ مرورٍ إلى شخصية زينو شومان التي تعجُّ بالحياءِ المقرونِ بالزُّهْد في أيِّ شيء : صبوراً ، حزيناً ، مُنْقَبِضاً ، يتآكلُ صدرُهُ ضِيقاً ، إنَّما مُتسامِحاً خَلوقاً ، هو كُلُّ أَحَدٍ مِنّا ربَّما ، مِمَّنْ يَرونَ في الدُّنيا هدَفاً عارياً عبثيَّ المآلات :
لا رغبةَ لي في زادٍ أو محفظةٍ أو مومسْ
الغيظُ ؟
حفرتُ لهُ أخدوداً في صدري !
فحبوري غشٌّ وتاَلُّقُ وجهي كذبهْ
رغباتي ذهبت في الأرضِ جُفاءْ
لا رغبةَ لي إلا في الطُّوفانْ
لو أوتيتُ نبوءةَ نوحٍ
لهرعتُ إلى أضلاعي
أصنعُ فلكاً واستعجلتُ الطُّوفانْ !
وليطفىءَ عذاباتِ الرّتابَةِ الإنشائية يتراسلُ الاستدلالُ في احتفالية الوضوحِ البلاغيّ بين دفتيّ ديوانه العتيد ، بالانطلاقِ مِنْ مقروئيتهِ كَنَصٍّ أدبيّ تجديدي ، يبعثُ الشاعرُ في النَّظْمِ حدْسَهُ من حيثُ هوَ تَصوُّفٌ أليفٌ على الصّيغةِ الانسانية ، يشي بكفاءةٍ بِنيويةٍ تكتنفُ التّجربةَ الإبداعية للشَّاعرِ الفذّ التي بَثَّها نداءاتِ حُّبٍّ ووجْدٍ مُطْلقَيْن ، بعيداً من تكاسلها الفكري ودونما تسكُّعٍ سيميائيٍّ بَليد لانجاز فرضياتٍ تأويليّة تُكبِّلُ ما أفصحَ بهِ شِعرُهُ كمحارةٍ مُضيئةٍ بينَ يديّ بحّارٍ نبِيل .
الحسام محيي الدين hmouhieddine@gmail.com
عذراً التعليقات مغلقة