ثلاث قصص وبائية
عبد العالي بركات
قاص من المغرب
الوحــش
ظل محتفظا بالكمامة تحت ذقنه وهو يتوجه إلي بكلامه الذي كنت أستوعب القليل منه، القليل القليل. كان يتحدث بدون أن يربط الجمل مع بعضها البعض، ولم أكن أرغب في مقاطعته وطلب توضيح منه. فهمت من كلامه أنه غير مرتاح البال.
كان يتحدث بحماس. يقول إنه منذ أن تلقى الحقنة الأولى من التلقيح الصيني، لم يعد يسقط النوم في عينيه، ما بقاش النعاس كيطيح لي في عيني، هكذا نطقها.
يتصور أن الممرضة التي حقنته، أسكنت وحشا تحت جلده. هذا الوحش نائم، وهو خائف أن يستيقظ الوحش في أي لحظة ويلتهم كافة أعضائه الباطنية.. الكبد، القلب، الرئة، المصارين، المصران الغليظ، المصران الرقيق.. أخذ يبكي. حاولت أن أهدئه. أوضحت له أن ذلك الوحش الذي يتصوره، هو في الحقيقة ميت وأنه لن يلتهم أي عضو من أعضائه، بل على العكس، سيهاجم أي عدو يتجرأ على الدخول إلى جسده، وبالخصوص الفيروس التاجي.
ضحك دون أن يقوى على إيقاف ضحكه، وواصل حديثه الذي لم أكن أستوعبه. عند ذاك انتبهت إلى أن ما كان يقوله هو الحق. الوحش لم يكن ميتا تحت جلده. لقد التهم عضوا من أعضائه، التهم عقله، وسيأتي لا محالة على باقي الأعضاء.
***
المتعافون
التقيت أحد الأصدقاء الكتاب الذي كان قد تعافى من مرض كوفيد.
جمعنا إبريق شاي في مقهى بالقرب من مقر عملي.
تحدثنا عن ظروف العمل في ظل الطوارئ الصحية، وفي ذات لحظة، سألني إن كان قد صدر كتاب في المغرب عبارة عن يوميات أو رواية لأحد المصابين بهذا الوباء.
حاولت أن أتذكر عنوانا ما، أجبت بأنه صدرت بالفعل بعض الكتب القليلة ذات الصلة بهذا الموضوع، لكن ليس حول تجربة الاستشفاء، هناك كتب إما عن تجربة الحجر الصحي، وإما عبارة عن بحوث اجتماعية.
استدركت وقلت له إنني سبق لي عن قرأت لبعض الأشخاص كتابات حول تجربة الإصابة بهذا المرض الوبائي، لكنها ظلت حبيسة الصفحات الاجتماعية.
أضفت: “لا يزال الوقت مبكرا على طبع كتاب حول هذه التجربة حسب اعتقادي”.
مد صديقي الكاتب يده إلى لوحه الرقمي وعرض أمامي ملفا تحت عنوان: “يوميات مصاب بكوفيد-19”.
قال وهو ينظر حواليه:
“سيكون هذا الكتاب سابقة، سيحدث ثورة في الأدب وحتى في المنظومة الصحية”.
كنت أستمع إليه وأنا أقرأ في الوقت نفسه ما هو مسجل في لوحه الرقمي. أضاف:
“أرغب قبل طبعه في أن أنشره على شكل حلقات بالجريدة، سيكون مفيدا للقراء وللجريدة كذلك”.
واصلت القراءة، كان النص طويلا، يصعب أن أتم قراءته في جلسة واحدة.
افترقنا، عدت إلى مقر عملي، ترددت جملته الصارخة في ذاكرتي:
“سيكون هذا الكتاب سابقة، سيحدث ثورة في الأدب وحتى في المنظومة الصحية.. سيحدث ثورة، سيحدث ثورة..”.
أخذت أتساءل: “هناك الآلاف من المتعافين من هذا المرض. كل يوم ينضاف المئات منهم. ماذا سيحدث لو ألف كل واحد منهم كتابا حول هذه التجربة؟”.
واصلت سيري في اتجاه مقر العمل وأنا أقول ورأسي يكاد ينفجر: “لن يحدث أي شيء.. لن يحدث أي شيء على الإطلاق”.
**
موعد التلقيح
كان موعد تلقيحه وشيكا. منذ أن توصل برسالة في بريد هاتفه تخبره بمكان وموعد التلقيح وهو متوجس.
كان شابا في مقتبل العمر. قوي البنية. لا يمكن لأحد أن يتصور أن فيروسا ما، كيفما كان نوعه، قد يهزمه.
شعر بالندم لكونه طلب منهم أن يدلوه على ذلك. يقول لمن حوله: “كنت هاني ما بي ما علي، أش ندير ما ندير، أرى نصيفط لهم إس إم إس ونسولهم فين وإمتى غادي نتلقح حتى أناي”.
أحيانا كان يتراجع عن تفكيره المتشائم ويقول لنفسه: “حنا محظوظين بهاذ التلقيح، يا ربي ترجع الدنيا لحالتها الطبيعية”.
جاء موعد تلقيحه. توجه إلى مركز الهلال الأحمر قبل الموعد بساعة. كان يتقدمه شخصان، شيخان أنهكتهما السنون.
تلقح الشيخ الأول وانصرف دون أن تظهر عليه أي أعراض. تلقح الشيخ الثاني وغادر المركز في الحال.
جاء دوره. أخذ يتهيأ. خطا بضع خطوات وتوقف. شمر على ذراعه. نظرت إليه الممرضة بانبهار. ابتسمت له وهي تقول: “حنا دابا أولدي كنلقحو غير الناس الكبار فالسن”.
ثلاث قصص خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة