كيف يصبح حشد اللاَّجئين على الحدود بديلا عن الحشود العسكرية؟

18 نوفمبر 2021
كيف يصبح حشد اللاَّجئين على الحدود بديلا عن الحشود العسكرية؟


هشام استيتو 

هشام استيتو

خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب

لا يمكنُ حصر تمظهر العنف في العلاقات الدولية فقط في النزاعات المسلحة، فقد باتت هذه الأخيرة أسلوب عتيق، لا يشكل إلا وجها بئيسا للعنف في العلاقات الدولية، ولا يخلف إلاَّ المأسي والويلات.

 لقد أبدع العقل السياسي البشري وسائل تناحرية تبتعد عن صوت طلقات البنادق والمدفعية، وعن أزيز الطائرات، ودوي الانفجارات، وضجيج المزنجرات، وهذه الوسائل البديلة عنيفة في مخرجاتها، أليمة في أثارها، ولا يمكن إنسانيا على الأقل أن تقل نتائجها عن ما تخلفه الحروب التقليدية.

ذلك أنه عقب الحرب العالمية الثانية، وعبر تدابير اتخذها الفرقاء المنتصرون وجد العالم نفسه في أتون حرب باردة بين الشرق والغرب، استعملت فيها الى جانب الحروب التقليدية بالوكالة، أساليب مبتكرة مثل سباق التسلح، والتسلح النووي، وتمزيق القوميات عبر خرائط النفوذ، وغزو الفضاء، والهندسة السكانية، وقضايا البيئة، والتغذية، الحروب الصناعية، وحتى الرياضة.

كان الأمر غريبا بتوصيف هذه الحقبة التي تزيد عن أربعة عقود بالحرب، مع إضافة لفظ الباردة للمصطلح حتى يحقق دلالته، ووجه الغرابة يكمن في مخالفة ما تخلد في ذاكرة البشرية من إحالة الحرب في صورتها الذهنية إلى النار والدخان، رمزان للحروب منذ بداياتها الأولى، وبشكل لازم لها ولو كانت فردية بين أبناء أدم، حيث أخذت النار قربان هابيل، لتصبح بعد ذلك أساس الحروب وخاتمتها، وركن أساسي في فصولها، فأحرقت المدن بعد فتحها، وأحرق المقاتلون بأساليب عنيفة في المعارك، وحصنت القلاع بخنادق النار المتأججة، إلى أن فرضت البشرية على نفسها هدنة من لهيب المعارك وعاكست هذه الهدنة بعض جوانب الطبيعية في الإنسان، وكان التوافق ضمنيا هذه المرة عبر السكوت عن حروب النار، بإبداع الصراع في شكل أتفق عليه اصطلاحا بالحرب الباردة.

حروب المنطقة الرمادية أو الحروب الهجينة، أو المختلطة، يصعب معرفة أبعادها ودوافعها نظرا لطبيعتها الفجائية، التي تستعصي على التوقع الاستخباراتي قبل اندلاعها

وبعد أن وضعت الأخيرة أوزارها وتوحدت ألمانيا، وانهار الاتحاد السوفياتي ومن معه، اقتنعت البشرية بإمكانيات تحقيق الأهداف السياسية بين الدول دون طلقة واحدة، وعبر صراعات باردة، تتخذ صبغة العنف الغير التقليدي.

هذا العنف الذي قد لا يغني مطلقا عن الحرب بمعناها التقليدي، بل يمكن أن يمهد لها، لتبقى خيارا متاحا، ولا يشطبها من قاموس العلاقات الدولية، يتخذ أشكالا وصورا لا تقل عن ما اتخذته الحرب الباردة من مظاهر، بدأ من المناوشات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، والحروب السيبرانية الغير موجهة إلى أنظمة الحواسيب ذات الاستخدام العسكري، إلى حروب المياه والغذاء، والتدويل الموجه والغير الموضوعي لقضايا التنمية وحقوق الانسان، والترويج لأفكار السيطرة والمطلق الأحادي كما حدث مع صمويل هانتنجتون، دون إغفال تمظهراتها الافتراضية عبر الشبكة الدولية للمعلومات.

وإذا حق لنا الفرز ضمن التصنيفات المتعددة للحروب الكلاسيكية، بين الحروب العبثية والحروب المشروعة، فإن حروب المنطقة الرمادية أو الحروب الهجينة، أو المختلطة، يصعب معرفة أبعادها ودوافعها نظرا لطبيعتها الفجائية، التي تستعصي على التوقع الاستخباراتي قبل اندلاعها، كما يصعب مواكبة أطوارها لصعوبة حصر جغرافيتها، كما يستحيل توقع عمره افتراضي لها، ولا يتحقق الإجماع حول تشكيلها اعلاميا.

وقد يوجد من يقول أن الأمر لا يخرج عن مقدمات سياسية للعنف التقليدي بين الدول، فجميع الحروب اندلعت بعد توترات تراكمت الى أن وصلت الى النزاع المسلح، لكن هذا الدفع لا يستحضر الإيقاع الزمني بين التوترات التي تنتهي بالحروب التقليدية والتوترات التي تستبدل العنف المسلح بعنف بارد أو هجين أو رمادي، دون ان تسقطه من قاموس العلاقات الدولية كما اشرنا.

هذه الحروب الغير التقليدية تعد اختيارا غير مكلف في عدة حالات، لا تحتاج إلى العدة والعتاد، بقدر ما تحتاج الى توظيف معطيات غير عسكرية في الصراع، لذلك لا تنطبق عليه مطلقا حدود وصفات وماهية التوتر، لأنه غاية التفاعل ومنتهاه، في إطار مواكب لخيار الحرب التقليدية ومصاحب لإمكانيات وقوعها، بل هو عين الجواب العابر للحدود في العلاقات الغير الودية بين الدول في الكثير من الحالات، عكس باقي أشكال التوتر، التي ما هي إلا مقدمة يمكن ان تفضي الى حرب هجينة أو حرب المنطقة الرمادية أو حرب تقليدية.

كما أن ضحايا هذه الحرب هم غالبا مدنيون لم يتمرسوا على فصولها، ولم يخضعوا لمناورات أو تدريبات على خوضها، كما أنهم أنفسهم سلاحها، الذي يستخدمه القرار السياسي في موازناته عند طرح الخيارات على طاولة الحسم، اعتقادا منه أن الأمر غير مكلف وامن، ولا يمكن أن يدمر بنية تحتية أو يهدد نظاما سياسيا داخليا، أو يمس بالسيادة الوطنية أو الأرواح والممتلكات.

وللحروب وجهها القبيح ولو كانت باردة، أو هجينة، فعندما تستخدم الدول المتنازعة ومن خلفها من الأقطاب، قضايا إنسانية من أجل تحقيق مكاسب على الأرض، فإن الأمر يتجاوز الوجه القبيح للحروب التقليدية إلى وجه بشع يجمع بين المضاربة بالإنسان، وهدر مقومات حياته الكريمة طبيعيا، وبالتالي فإن هذا الشكل من العنف لا يخضع لقوانين الحروب. 

إن ما يحدث هذه الأيام على الحدود بين بولونيا وروسيا البيضاء، يندرج في هذا الإطار، ذلك أن سياق التحالف بين منسك وموسكو بعد تمدد الغرب إلى ما تعتبره روسيا مجالها الحيوي، ودخول عدة دول من شرق اوروبا ووسطها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، فرض على روسيا سياقات تنازع غير تقليدية، كخيار مسيطر عليه إلى حد ما، لذلك أصبحت محركا خلاقا يتفنن في إبداع تمظهرات الحروب الهجينة، وهي إن حققت أهدافها من أزمة اللاجئين عند الحدود البولندية الممتدة على مسافة 400 كلم مع حليفتها بيلاروسيا فإنها لن تتوقف عند هذا الحد، بما في الأمر من تداعيات على بعض المصالح الوطنية الخاصة لبعض الدول في أوروبا وخارجها.

وسندها في ذلك هو حساسية موضوع الهجرة واللجوء بالنسبة للاتحاد الاوربي، الذي يشارك مجالها الحيوي حدودا ممتدة على أكثر من جبهة، كما أنه يعتبر ورقة ضغط شعبية داخل الاتحاد الاوروبي، وموضوع محرج لهذا الاتحاد على مستوى القانون الدولي.

إن ما تتناقله وسائل الإعلام والتواصل من صور إنسانية للاجئين من الشرق الاوسط وإفريقيا، ليس حالة معزولة، تحقق في قوتها بلاغة الصورة في الضمير العالمي، بقدر ما هي سيناريو معاد للأزمات السابقة في بحر إيجة والأدرياتيكي وبلغاريا، لكن بنفس إستقطابي هذه المرة، يحيل في مسؤولياته إلى التلاعب بالتزامات الأطراف أمام حقوق الإنسان، خصوصا حقه في اللجوء، هذه المسؤوليات كما يعلم الجميع لها وجهان بارزان، أولاهما التقدير الموضوعي لحالات اللجوء، وثانيهما الكف عن استخدام الهجرة واللجوء كورقة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية، الأمر الذي تجاوزته الأزمة الراهنة إلى محاولة تحقيق مكاسب تكتيكية يستوعب بوتن ولوكاشينكو، كل  بحساباته ومصالحه، أنهما غير قادرين، على تحقيقها بالطرق التقليدية دون المغامرة بأوضاع يصعب تداركها في حالة الخطأ في التقدير.

وكجميع الأسلحة المستخدمة في الحروب، فإن اللاجئ يعتبر مجرد آلة، وفي هذه الحالة قد توضع هذه “الآلة” في المخازن عند وقف إطلاق النار، والمخزن هنا ماهي إلا مجاز لواقع التنكر المرتقب لحق اللجوء، وبشكل فجائي إذا تحققت الأهداف من هذه الحرب، وذلك عبر إبعاد هؤلاء من الحدود، ومن إقليم الدولة، مما ينذر بأزمة إنسانية ستتنكر لها الطبيعة القمعية لنظام الحكم في بيلاروسيا، وهو ما يفرض على المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الضغط على الجميع من أجل إعطاء الموضوع حجمه الأصلي، والضغط على منسك ومن ورائها من أجل الكف على توظيف ما هو إنساني في صراعهما مع الغرب.

  مقال خاص لصحيفة قريش – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com