قيامة الجزائر ..مقطع من رواية لعبدالرحيم حمام

24 ديسمبر 2021
قيامة الجزائر ..مقطع من رواية لعبدالرحيم حمام

مقطع من رواية الكاتب الجزائري عبدالرحيم حمام

قيامة الجزائر

تخلّص غورزيل من كلّ حمولاته وأحماله المعهودة، فلا كومبيوتر محمول، ولا فلاش ديسك، ولا بطّاريات، هذا من أجل المضيّ قدما في رحلاته المضبّبة، ومهامه الخاصة. لم يعد يشعر بحاجة ماسّة إلى ذلك. لم يعد بحاجة إلى آلة التصوير لا من فئة نيكون ولا كانون الشّهيرتين بعدسة 18.55أو 35.85 ليتسنى له الإجهاز والتّحكم في الهدف القائم أمامه ليؤطّره حسب قواعده الخاصة، يكوّن ويتحكّم في عمق الميدان، الحدّة، ونقاط القوة ومقدار الضّوء..

لم يعد بحاجة الفلاتر ليهذب الأشعة ويقاوم انحراف الألوان ويتفادى ذرات الغبار..لم يعد بحاجة إلى الحامل الثّلاثيّ لتجنب أيّ اهتزاز محتمل. هو يريد سلاح عفوا، فنّ يحيط بالماضي وينفذ إليه دون عناء، ويؤثّر فيه، ويحضر في الحاضر ويتحكّم في حيثياته، ويغوص في المستقبل ويتخيله كما يحلو له.

هذا ما لا يتوفر في الفوتوغرافيا للأسف ! هي فنّ اللّحظة كما يقال، يشير “رولان بارث” إلى أنّ ما يتكرر في هذا الفنّ ميكانكيا لا يتكرّر وجوديا، و يضيف أيضا أنّ الزّمن فيها مذبوح! بهذا لا يمكنها الرّجوع إلى الخلف ولا تتجاوز الحاضر إلى المستقبل؛ إذن العدسة فاشلة في التقاط الفائت من الأحداث والقادم منها.

أمام كلّ هذه العوائق والقصور في القبض على الزّمن، هو يتطلع إلى أسلوب وتقنية فنيّة تسمح له بالتزلج على خيط الزّمن الأزليّ واللّا نهائيّ. منذ اليوم لم يعد بحاجة إلى الرّكح، ومخرج يضبط حركاته وكلماته، وتقاسيم وجهه على الخشبة.. لم يعد بحاجة إلى مسئول الإضاءة والصّوت.. لم يعد بحاجة إلى سينوغرافي متمكّن. لم يعد بحاجة إلى لوحة عذراء وفرشاة ذات الجودة العالية..لم يعد بحاجة إلى الألوان الأساسية، ولا الثّانوية، الحارة منها والباردة.. لم يعد بحاجة إلى البالتة والستاند، الأقلام الملونة والسكّين ولا إلى موديل. لم يعد بحاجة إلى أوتار ذهبيّة أو فضّيّة..لم يعد بحاجة إلى إيقاعات محليّة أو غربية، سريعة كانت أم بطيئة. نعم! هو ليس بحاجة إلى مبراة ومسطرة.. هو بحاجة إلى محبرة، حبرها من عصارة شقائق النّعمان، أو من رماد الصّوف المحروق، وإلى ريشة بشكل مشرط رقم 12 .. هو بحاجة إلى أوراق لا تهم طبيعتها ومصدرها من أكياس الإسمنت، أو من الكارتون، أو الأوراق المتوفرة بالمطاعم، وقد يتعدى ذلك إلى التّدوين على الجلد الحيّ، المهم سطح يدون عليه.. يحتاج إلى أعداد وحروف ليثبت أمام عينيه المستقبل، الماضي والحاضر.

إنّ الأبجدية والعدد هما الكفيلان الحقيقيان لرصد سيلان وتدفق الزّمن تفكيكا وجمعا، وبعدها تتناسل على سطوحها المعشوقة كلّ آيات الوجود وجمالياته. يرغم الحروف بعد أن يشكّل منها كلمات وجمل على البوح بما هو غير مألوف ومعتاد، يجلب العقول والقلوب إلى الانخراط في عالمه السّحريّ المحفوف بالرّيب، ما يجعل عشّاقه، يتطلّعون متعطّشين إلى معرفة المزيد من طرائفه الشّيقة. هو بحاجة إلى قليل من الضّوء لينير صفحاته، التي عاكسها، ضاجعها واغتصبها.

أما العذارى التي بحوزته، فهي بانتظاره وهي مشتاقة إلى طعنات، وشرطات ريشته التي تشفيها من الخواء والعدم، لتمنحها تأشيرة المرور إلى الحياة، لتتمتع بسمة الوجود.

الأكثر من هذا كله هو بحاجة إلى عمر كامل من الانتكاسات، ورصيد كافي من الانكسارات، ليتغذى عليه فنّه، وهذا متوفر إلى حد الإشباع، ما يمكّنه من تصديرها دون عناء، فالإقبال عليها كبير من ذوي القلوب المنكسرة، الجريحة. هكذا يفتك بالمعاني عندما يشنّ غاراته على معسكرات اللّغة والأرقام، يغنم ويسبي بنعومة ويسوق الكلّ إلى مملكته الغريبة المشيّدة بثنايا كتبه، حيث يصعب على القارئ الغوص من الهامش إلى المتن.

في هذه الرّحلة الكثير من الفضوليين يلقوا حتفهم على تخوم النّصوص، ومنهم مَن يصاب بمسّ الحرف والعدد، ولا يشفى من بعد ذلك أبدا !

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com