الزبير خياط
باحث وناقد وشاعر من المغرب
شهادتي في أستاذي الشاعر محمد علي الرباوي في حفل تكريمه ربيع 2008 من فرع اتحاد كتاب المغرب بوجدة ومديرية الثقافة لجهة الشرق.
أنشر الشهادة بعد 13 عاما من كتابتها وإلقائها احتفاء بفوز أستاذي محمد علي الرباوي بجائزة المغرب للكتاب صنف الشعر في دورة سنة 2021 .
****
إليك أيها الشاعر الأشهب ، أيها الولد المر، والسندباد المكابد. وأنت ترى القهر قد عسعس جعلتَ رمانتك حجرية، ونسبت أطباقك إلى جهنم . وإذ ترى النور يكاد ينبلج والغيث في أوله جعلت بيعتك مشتعلة، وأحجارك فوارة .
لاأحييك بالورد، ولا أستحضر فيك اللَّيلك. فأنت مولع بالشيح والعرعـر. مولع بأعشابك البرية. وأنت في وجدة الفيحاء، تحمل في قلبك تنجداد الشهباء. وكما حن شعراء اليمن لسهيل تحن أنت لقمر أسرير. أنت أشبه بنخلة عبد الرحمان الداخل الذي أحوّر بيته الشهير لأقول فيك :
تـبـدّت لنا في ربع وجـدة نـخـلـة *** تناءت بأرض الشرق عن بلد النخل
الرباوي بدوي تفضح بداوته قوةُ السماع ، هو مدرِّب لذبذبات الأذن، هو يستغفر ويحوقل عندما يسمع شاعرا يلحن، أو يتعسف على إيقاع .هو في عِزِّ تهويمات الحداثة، والقصيدة البصرية ، ولعبة البياض والسواد، فضَّل أن يظل حاديا . لم يكن يثق إلا بأذنه. كثيرا ما رأيناه يغمض عينيه عندما ينشد، تماما كالحادي، وكأنما يستنفر داخله حواس الصحراء، يستنفر القلب الحافظ والأذن الحساسه .
الرباوي عصيٌّ على التصنيف..هل هو الشاعر المتصوف؟! الذي يحضر كثيرا في استشهادات المرحوم الشاعر محمد بنعمارة عن شعر التصوف. أو هو الشاعر الإسلامي ؟! كما يريد بعض محبيه أو بعض المغرضين. أو هو الشاعر الثوري الذي تنضح دواوينه بآلام الفقراء؟! أو هو الشاعر الرومانسي الحالم الغائص في ذاته ؟! هل هو الشاعر المتعصب للتراث المتمسك بثوابته الشعرية لغة و إيقاعا ؟! أم هو ذلك القارئ العاشق لأعلام الشعر الفرنسي ؟! الرباوي ببساطة شاعر يغرف من بحر الحياة ، ويسهر تحت شجرة الشعر.
الرباوي وهو يُصَنف ظُلم كثيرا : ظلم إديولوجيا لأنه لم يشأ أن يكون الشعر يسارا أو يمينا ، وظلم فنيا لأنه لم يركب موجة الحداثة الموغلة في الشطط و الهدم. ظلم ولكنه أصر على الحضور بل الإزعاج بحضوره لأنه من أكثر الشعراء المغاربة إصدارا وانتظاما في الإصدار. لم يكن التمسح ولا المهادنة هو ما أدى إلى الالتفات مؤخرا إلى الرباوي واعتباره صوتا شعريا حقيقيا، وإنما كان ذلك من خلال إصراره على التواجد في المشهد الشعري المغربي.
أذكر الآن علاقة جيلي بالشاعر الرباوي.. كنا نتلمس طريقا للكتابة ونبحث لنا عن موطئ قدم في ساحة لم تكن ممهدة. وكان للرباوي فضل كبير في الأخذ بأيدينا. وجدنا في الرجل مصداقية أخلاقية، ومصداقية شعرية . لقد ألفت أقدامنا الطريق إلى بيته السابق المتواضع، وألفنا البهو والرواق المؤديين إلى محرابه الشعري، وألفت أنوفنا رائحة مكتبته العامرة، وألفنا صينية الشاي ومقبلاتها التي لم تكن تغيب رغم ضيق ذات يد هذا البدوي الكريم آنذاك، وألفنا أن يقطع حديثنا زوار من طلبته أو محبيه كان يتسع لهم قلبه قبل بيته. ألفنا كذلك لقاءاتنا في مقاهي وجدة، وحواراتنا حول الشعر والكتابة وكان الرباوي بقدر ما يكلمنا يستمع إلينا، كنا صغارا وكان كبيرا ، وكان يعيش معنا أحلامنا . كان يؤكد مقولة أن الشاعر هو ذلك الطفل الذي لا يكبر أبدا .
السي علي: لقد كنتُ واحدا من ذلك الجيل. وكنت أحس نفسي قريبا جدا منك. أذكر جيدا لقاءنا الأول عندما استوقفتك وأنت تهم بعبور شارع محمد الخامس نحو مكتبة كاسريس صيف 1989 أردتك أن تقرأ شعري لأنني كنت عازما على إصدار ديواني الأول . وضربنا موعدا في المقهى مساء. وخجلت من نفسي عندما وجدتك في انتظاري. أذكر ذلك اللقاء وخوفك على مصيري في الشعر إن أخفق الديوان. ربما أحرجتك بعدها حين طلبت منك كتابة مقدمة الديوان . ولكنني كنت أعرف حجم القلب الذي تملكه . لقد كانت مقدمة الديوان شهادة في حق أجيال الشعر المغربي ، وشهادة في حق الديوان . ونقدا لماحا لصاحبه . توطدت علاقتنا مذاك صرتَ أول من يقرأ قصائدي وأول من أخبرته بفوزي بجائزة اتحاد كتاب المغرب دورة 94 وكنت من فتح أمامي الآفاق نحو النشر من خلال جريدة العلم أو من خلال المشكاة. وكنت مصرا على حضوري في مهرجانات الشعر. أذكر كذلك بنستالجية خروجنا معا مرات من بيتك قاصديْن المدينة راجليْن، قبل أن نُبتلى بآفة ركوب السيارة، وحديثُـنا في الشعر لاينهيه الطريق الطويل الذي تمنيته أن يطول فلا نرى خيال دار كما قال حجازي .
أستاذي الشاعر الرباوي ما لم أقله لك منذ ثمانية عشر عاما هو أنك ألهمتني بقصيدة: “الأشهب والشاعر الخنثى ” في ديواني الثاني: “الطريق إلى إرم ” واليوم إذ يُحتفي بك يسعدني هذا البوح الذي قلت لك فيه :
لِمَ انسحبتْ إرمٌ مِن خلاخيلها
لم يعد حُـقُّـها نرجسا
يسرقُ التيهَ من صبوة الأفئده
أريبٌ هو العشقُ
لا يصطفيكَ جراحاً و جمراَ
وداعا أغانِيَّ
يا ذبذباتِ الضلوع
صحا القلبُ عن دغدغات الأماليدِ
و الحرفُ عن نَمنماتِ الحواشي
وبين اشتهائي ، وحكمة جدي
أمدُّ صراطي إلى الله
طفلا وكهلا .
ويوم أموتُ
سلامٌ على وجنة لم تـُرق ماءَها!!
ضمِّخوا الشيحَ لا الزعفران
فلونُكَ يا جسدي الأشهب المر
لا يُبهج الناظرين.
ألا يُورقُ الياسمينُ على شفة من حجرْ؟!
سَأَرْتَقُ كل التفاصيلِ
كي أنفخَ الشمسَ في حمحماتِ الكنايةِ .
أقسمُ .. لن أهرق الصَّمْغَ في حَمَإ الصولجان !
هَوايَ إلى إرمٍ وردةً
تعشق الملح و الريحَ
يا نخلةً تشربُ الصيفَ
هل يرحل الثلج عن سمرتي
كي أهرّب صوتَكِ في وتر من دمي
هل أردُّ إلى فننِ الدوحِ
تغريدةَ الطائر الغِـرِّ؟
هل أمنحُ العشَّ تفقيسة زائده ؟!
على أُمة عسعسَ القهرُ في ليلها
كنت أدخلُ مقصورةَ الحُور
في معجم فاقع بالغرام المخنَّثِ
لا .. لستُ إلا التشظيَ في جدولٍ
خَضْخَضَ الطينُ مرآتَهُ .
صرتُ أعشقُها سدرةً
تتضوَّعُ مثل الأقاح.
فحين ذبحنا خلاخيلنا فوق غرغرة آبده ،
ودارت على الساق ساقُ
وَقِيل المساقُ
بكيتُ و تمتمتُ :
لي إرمٌ واحده .
السي علي :
مرة أخرى أُحَوِّرُ شعرا قديما وأقول فيك من المتنبي:
هـنيـئـا لك الـعـيـد الذي أنت عـيـده *** هنيئا لمن سُـمِّي عليا محمدا
وما زالـت الأعــيــادُ لُبسَك بـيـنـنـا *** تسلِّمُ مَخلوقا وتُـعـْطى مُجددا
الزبير خياط في يوم تكريم الشاعـر: محمد علي الرباوي .
وجدة يوم الخميس 10 أبريل/ نيسان 2008 .
مقال خاص لملحق ثقافات وآداب – صحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة