محراب المادة

20 يناير 2022
محراب المادة

د محمد غاني

، كاتب، المغرب

هل المقصود هو قلب  الشيء ام أن الجوهر يتمثل في قالبه؟ لقدى طغى على الانسان منذ القدم الانحراف في محراب محبته للاشياء، فتراه في معظم الاحيان “يقدم صريح الضرر على صحيح النفع كما يفعل الجهلة من الخلق” كما ذكر ذلك الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه سؤال الأخلاق.

اذا كان ابن قيم الجوزية أوصل مقامات المحبة الى أكثر من ستين  اسما للمحبة، كالعلاقة والهوى والصبوة والصبابة والشغف  والوجد والكلف والتتيم والعشق والجوى والدنف والشجو والشوق والخلابة والبلابل والتباريح والسدم والغمرات والوهل والشجن واللاعج والاكتئاب والوصب والحزن والكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة والتبالة واللوعة والفتون والجنون واللمم والخبل والرسيس والداء المخامر والود والخلة والخلم والغرام والهيام والتدليه والوله والتعبد.

فان أعلى مقاماتها في نظرنا هو تسميته الأخيرة بالعبادة أو التعبد و هو نفس المعنى الذي تذكره لغات أخرى غير العربية لما يريدون التعبير عن المحبة في اعلى مقاماتها كاللغة الفرنسية التي تعبر عن ذلك بفعل adorer و التي تعنى عندهم المحبة بكل شغف و النابعة من لب الفؤاد.

حتى في القرآن الكريم أرجع العديد من المفسرين معنى العبادة في جوهرها الى المحبة فهذا الامام السعدي في تفسير قوله تعالى “سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا” أي “افتقر إليه, العالم العلوي والسفلي, فقرا ذاتيا, لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات.هذا الفقر بجميع وجوهه, فقر من جهة الخلق, والرزق, والتدبير.وفقر من جهة الاضطرار, إلى أن يكون معبوده ومحبوبه, الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون.” فجعل المعبود مرادفا للمحبوب، و لذلك كانت محبة الله و رسوله في اعلى مقاماتها شرطا لا مناص منه لكمال الإيمان.

يحرص أغلب الناس على صلواتهم من حيث ظاهرها، على  تحقيق شروطها السطحية غافلين عن تحقيق جوهر الصلاة الذي هو الخروج من عالم الحس الى عالم المعنى.

فالله لا يرى جهرة بعين البصر بل يرى في تجلياته بعين البصيرة و لا يتأتى ذلك الا من خلال كوة الروح داخل كل انسان انسان، يعمل على توسيعها شيئا فشيئا بالتمرين اليومي و المستمر للرياضة الروحية المتمثلة في التأمل في الرموز الالهية التي أخفاها وراء كل شعيرة شعيرة في الاسلام.

انه من خلال التفكر، و التفكر لا غير، يمكن أن تنجلي حجب المادة التي تغطي الظاهر لا ذي لا يحتجب و تجعلك تفنى في الباطن الذي يسرى بك ببراق الذكر في سمواتك الباطنية الى ان تنتهي الى سدرة منتهاك ايها العبد الفاني فيه، الباقي به فإنه لا حول و لا قوة الا به.

و لا يتأتى ذلك الا برؤية الخالق في تجليات مخلوقاته مع تغميض العين عن الحيثيات التي تفرق البشر في طبقات اجتماعية، و لذلك ساوى الحق سبحانه في المساجد بين جميع طبقات عباده فلا فرق عنده بينها الا بالتقوى ، لا بالفروق المادية التي نقيس بعضنا بعضا اجتماعيا من خلالها.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com