الجراسون
ديوان شعري للشاعر اجود مجبل
“عتبة العنوان وسؤال المعنى المتوشح بهواجس القلق و الأسى”
قراءة- عقيل هاشم
الكتابة للأديب ضرورة حياة ووجود، و سلاحه الوحيد في مواجهة قسوة العالم وعتمته التي تزداد يوماً بعد آخر, وإن فعل الكتابة يُعرف بكونه فعلا تحريريا وثوريا ضد الثقافة الظلامية السائدة والتقاليد العمياء، التي تحد حرية الفرد وتجبره على الالتزام بقواعد تخالف الوعي ..
لجراسين في الاجراس ناموا
لكي يصحوا
على وطن مبين
فصار لصمتهم
طعم الأغاني
الشاعر “اجود مجبل ” يعتني باختيارات عناوين دواوينه الشعرية بنفس الذائقة التي تحكمه عند كتابات النص ، تأخذ بيد القارئ لتأملات واسعة ، فليس ثمة تحديد نهائي لمضامين قصائده، وما تفيض عنها من رؤى وتساؤلات، والشعر سيظل دائماً رقصة الطائر المذبوح وخيط سري مشدود بين الجسد والروح معا.ً.
يطل علينا عنوان الديوان الجراسون -“كتلة نصية” ، تأويل – مرشدو الظلمات- الذين يقرعون الأجراس للاقتتال وإشعال الحروب الدينية بسبب من إنعاش فساد عقائدهم، ولأنّ الجهل صار مرضاً يقوض ويهدم ويشيع الفرقة والانقسام.. ولا بد من ثائر “تشريني”
ويرى الشاعر علاج هذا الخراب بالتنوير وإشاعة الفكر الحر لأنّه يحرر الإنسان من أوهام لطالما ترسخت، و يحطم أصناما عبدت طويلا، وان المجازر التي ترتكب باسم الدين، من قبل أناس ركبوا موجة التيار الديني وغرقوا بالجهل هم سبب إذكاء النار ..
اقتباس:
بعض القصائد يامولاي
اضرحة
فهل ستبكي علينا هذه اللغة
لم تكترث معجزات الانبياء لنا
فقل لهم انت:
ان الشعر معجزة …ص63
هذا العنوان وما ضمّ من رمزية تنهل كثيراً من مفهوم الفكر/الحرية . “الحرية ليست مفردة معزلة، أو مجرد مصطلح يحتاج إلى تعريفات، ولكنها حجر الزاوية وقطب الرحى لسلوك المرء في الحياة،وعلى كل المستويات والممارسات القمعية من “دينية –اجتماعية…الخ.
اقتباس:
يوما سيولد أطفال على النهر
مخضبين
بلون الغرين السري
وسوق يبنون من العابهم مدنا
ويدخلون إليها أول الفجر …ص16
الديوان يقدم قصائد انسانية هي رثاء لفقيد اصدقاء الشاعر من الأدباء ,صاغها, بلغة تتجاوز التصوير الفوتوغرافي المباشر إلى اعتماد الكثافة الرمزية والإيحائية والصور البلاغية، لتصبح لغة تجمع بين الوظيفة البلاغية و الوظيفة الإبلاغية.
اقتباس:
الى “مروان عادل”
ازقة “الفضل”
هل تدري؟
بانك لن تعود ثانية
كي يكتب الشعرا
ولن تمر على الجيران
مبتسما…ص23
الديوان ضاج بالنقد والحجاج ويدعو إلى استدراج القارئ ليتفق مع الشاعر في رؤياه., ثمة هواجس مزعجة تؤرقه وأن لهذه الكوابيس أسبابا متعددة، مظاهر شتى، تبعات كثيرة..
يرى الشاعر ان انتصار الفوضى و الدمار و الموت والآثام. هي الصراع الحضاري مع الآخر..
من خلال رصد عالما تغيب عنه القيم الإيجابية، و تحل فيه، بالمقابل، قيم سلبية، والقصيدة استبطان للإنسان هذا العصر ينحدر نحو الشر والبغضاء بلا هوادة، و قد فقد إنسانيته و تشيأ. فصار مثقلا بالحقد، وينشر الخراب
يتميز النص بلغته الرمزية الإشارية الإيحائية. ولا ينحصر الرمز في المفردة الواحدة، بل نجد رمزا ممتدا يشمل جملا شعرية بكاملها.
اقتباس:
نموت نحن
وتبقى بعدنا بغداد
سبيكة من جلال الموت والميلاد
يمضي الطغاة ونمضي وهي باقية
كم ودعت من ناى
واستقبلت من عاد…ص69.
القصائد في مجملها وقفات إنسانية ، لم يتوان الشاعر من رسم صورا حدثت ولازالت تحدث من طفولة بائسة واحلام صعب تحقيقها ، كأنه يشي لنا بأنه يحزن لكل مشهد تستذكره إنسانيته المعذبة ولأنه ذاق ذاك الحزن والذي ينغرز في النفس مثل مدية قاتلة وبلا رحمة .
اقول الشاعر كعادته في دواوينه السابقة استطاع ان يطوع اللغة، من أجل التعبير عن مقاصده. و من أشكال ذلك، توليده حمولات لغوية للدلالة على الدرك الذي وصله الإنسان من انحطاط و نزوع نحو الشر ولكن بلغة فنية جمالية.
اقتباس:
وتشرين المعظم
كان يلقى فخامته عليهم
كل حين
على وقع الرصاص مشوا
وظلت خطاهم
في سجلات الحنين
وظل “صفاء” يرعب قاتليه
فمجدا للفتى الحي الدفين …ص87
وختاما ..اقول إن الشاعر اجود مجبل قد برع إلى حد كبير وبأسلوب راق جدا من تفكيك خطاب السلطوي الاقصائي بالنقد والحجاج والاقتباسات الحضارية “اور وبابل ” والاسطورية من أجل تحقيق تفاعل انساني , وان هذا التغيير المنشود من فساد وظلامية وتغيب العقل وعدم استقلالية القرار الوطني وغير ذلك من المظاهر الأخرى.قابلة للاصلاح ولنا شواهد تاريخية على ذلك اذا صلحت النفوس..
وعموما يمكن القول إن تجربة الشاعر تجربة عميقة تدفع فيها اللغة إلى بلوغ الحدود والعتبات للاشتغال فنيا في منطقة الإخفاق المجتمعي برؤيا تعري ما يعتري الذات جراء هذا الإخفاق، فوظيفة اللغة في ما كتبه الشاعر لا يجعل منها أداة ووسيلة فقط وإنما يحولها إلى سؤال كتابي بما بلغته في البناء وسؤال المعنى المتوشح بهواجس القلق و الأسى..
عذراً التعليقات مغلقة