فيلم سينما براديزو.. حب يدفع الى التفوق

27 فبراير 2022
فيلم سينما براديزو.. حب يدفع الى التفوق

وليد الأسطل

فيلم Cinema Paradiso

فيلم ” سينما باراديزو” للمخرج (جوزيبي تورناتوري) من أفضل أفلام السينما الايطالية، و من أفضل الأفلام الّتي شاهدتها في حياتي. حاصل على عدة جوائز، منها أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية.

يناقش أشياءَ كثيرة، لعلِّي أذكر منها الحياة في جنوب إيطاليا، و في صقلّية بشكل أكثر دقّة، إبّان النّصف الأوّل من القرن 20. يتكلّم عن العلاقة المتينة الّتي تنشأ بين الطفل “سلفاتور” و الكهل (آلفريدو)، عامل تشغيل آلة السينما، و كيف أنّ نصائح هذا الأخير الّذي يكون أمِّيّاً ستجعل من الطفل (سلفاتور) شخصا ناجحاً في المستقبل، و صانع أفلام شهير. 

يذكّرني هذا بجملةٍ كنتُ قد قرأتُها في كتاب “حياتي” للأستاذ “أحمد أمين”: (تعلَّمتُ منَ المدرسةِ دروسها، و تعلّمت من الحياةِ دروساً أبلَغَ من دروس المدرسة). علاقة سلفاتور ب الفريدو تبدو للبسطاء مجرد علاقة صداقة أو أبوة، لكنها تتجلى للمتبصرين على هيئة أهم من ذلك بكثير، إنها علاقة مشاركة نفس الشغف، الولع بالسينما. 

يتكلّم أيضاً عن قصّة الحبّ الأولى في حياة الشاب سلفاتور، عن عدم تحرّره منها رغم بلوغه درجات عليا على المستوى الإجتماعي و المهني، و رغم علاقاته العاطفيّة المتعددة و حياته الجنسيّة الصّاخبة الّتي يُشَارُ إليها تلميحاً لا تصريحاً في الفيلم. و حواره مع والدته خير دليل على ذلك، عندما تقول له انها كلما كانت تهاتفه كانت ترد عليها امرأة جديدة، و مع هذا لم تشعر بالحب في صوت أي واحدة منهن، و انها كانت تتمنى أن تراه مغرما بامرأة تحبه. 

أن يظل المكان شاغرا خير من أن يشغله الشخص غير المناسب. لا ينبغي لحاجتنا إلى الحب أن تدفعنا لاختيار أشخاص غير مناسبين لنا. احجز الأماكن المهمة في حياتك لمن يستحقونها. 

يحدثنا الفيلم عن “سينما باراديزو” التي يستقي عنوانه منها، كيف صنعت أهل القرية داخليّاً، حتّى أنّهم كانوا يحفظون مقاطعَ كاملةً من الأفلام التي كانت تعرضها.

آلفريدو و سينما باراديزو يعادلان آندي و الفونوغراف اللذين خففا عن السجناء حرمانهم من الحرية، و أحالا السجان سجينا في مفارقة مضحكة في فيلم Shawshank redemption، حين يغلق السجين آندي باب المكتب، و يضع على الفونوغراف أسطوانة أوبرا “زواج فيجارو” لموزار، ثم يشغل مكبرات الصوت، فينهمر السحر و الجمال و الفتنة على أسماع السجناء و نراهم منبهرين انبهار النسوة اللاتي قطعن أيديهن من فرط جمال يوسف عليه السلام.

 أعود لأشير إلى “آلفريدو” الّذي كان يحفظ قاموساً من الجُمَل الوارِدة في الأفلام التي كان هو القائم على عرضها، و كيف جعلَت منه حكيماً مُتبَصِّراً، و ناصحاً أميناً.

 الفيلم مليء بمشاعر الحنين إلى بساطة الماضي، إلى العمق الّذي توشك سطحيّة و تفاهة الحاضر أن تخنقَه، إلى الحبيبة الأولى، الّتي تومئ بدورها إلى معناه من خلال إجابتها “سلفاتور”: (لا، لا يُوجَدُ هناك مستَقبَل، و إنّما هناك الماضي فقط). الحنين إلى الحب الحقيقي، الحب الذي ينبغي عليك أن تعاني من أجل فهمه و التأكد من صدقه. الحنين إلى أناس قادرين على رسم البسمة على شفتيك حتى و إن كانوا غائبين. الحنين إلى أشخاص تعبّر عن عمق حبك لهم بكثير من الألم و الدموع لأنهم ماتوا.

لقد أحالتني هذه المشاهد و المعاني إلى فيلم (السيدة داوتفاير) Mrs. Doubtfire

حيث نشاهد “روبن ويليامز” و قد تنكر في شخصية مديرة منزل زوجته التي انفصل عنها، ليظل قريبا من أبنائه. و عندما ينكشف أمره في نهاية الفيلم، ينتهي إلى أن حب أفراد العائلة لبعضهم البعض أهم بكثير من وجودهم في نفس المكان، و أنه ليست الأماكن هي التي تربطنا ببعضنا البعض و إنما الحب.

وجه سلفاتور المتأرجح بين دمعة و ابتسامة، بين حزن و فرح، و هو يتابع مشاهد الغرام و القبل التي كان يحذفها الفريدو قبل ثلاثين عاما بأمر من قس البلدة، مجمّعة في شريط واحد هو الهدية التي وعده بها الفريدو عندما كان طفلا. كل هذا على أنغام  موسيقى يمزقها الشجى، للعملاق انيو موريكوني.

فيلم أغلب إشاراته توجهك إلى حيث الحكمة، أقصد إلى الماضي، و لعل أبرز حدث يرمز إلى هذا، رجوع “سلفاتور” لقريته بعد أزيد من ثلاثة عقود، ليحضر جنازة الفريدو.

المجد للمغامرين. إن مشهد المراسي الكثيرة في الميناء إشارة إلى تشبث سلفاتور بفكرة البقاء في البلدة، و هي بلا أدنى شك طريقة تفكير خاطئة منه. مشهد المراسي في الفيلم أشبه بالغرق في رمزيته. فجمال السفن في ابحارها كما يرى (باولو كويلو). 

لطالما راودني التساؤل التالي: كيف تمكنت (ايميلي برونتي) أن تكتب روايتها الخالدة (مرتفعات ويذرينغ) و هي بعد شابة صغيرة، تعيش في مكان خال من أسباب التجربة، بل خال من كل شيء سوى من الصمت و الهدوء، حبيسة البيت، منعزلة عن العالم في يوركشاير الريفية؟

ذلك لأن من بين الرّسائل التي نَجَحَ الفيلم في إيصالها لي على الأقلّ، هي استحالة أن يكون حجم المرء أكبر من حجم بيئته، و لا يمكن أن تشابه خياراتك خيارات الاشخاص العاديين و تكون شخصا استثنائيا في الوقت ذاته. فعندما يرى الفريدو شدة تعلق سلفاتور أو توتو -كما كان يحلو له أن يناديه- بحبيبته، يخشى عليه أن يظل في القرية و يتزوجها  فيغدو نسخة عن باقي رجال القرية. (هناك مبدعون قضت عليهم نساؤهم و قتلن مواهبهم و قضين عليهم تماماً) الروائية الكويتية (ليلى العثمان). من هنا يكون الفريدو السبب الأساسي في انفصال سلفاتور عن حبيبته، ثم ينصحه و هو يودعه في محطة القطار بالرحيل و عدم النظر إلى الوراء، ينصحه بالذهاب إلى روما و بأن لا يستسلم للحنين(لا تستسلم للحنين، انس أمرنا، لا تعد مجددا، و إن عدت فلن أدعك تدخل بيتي)

حب الفريدو ل سالفاتور حب ناضج، يدفع إلى التفوق. يبدو لي أن الفريدو قد أدرك أن التفوق أناني، يستلزم منك أن ترهن حياتك كلها له. أن تتفانى في خدمته تفاني (جيمس ستيفنس) في خدمة سيده اللورد، في فيلم (بقايا اليوم)The Remains Of The Day ، (جيمس ستيفنس) الذي أجاد وصفه مخرج الفيلم (جيمس أيفوري) : (مثله مثل الكاهن الذي يضع حياته على المذبح، يخدم ربه دون قيد أو شرط)  

من بين الفوائد المستقاة كذلك، أنّ أصحاب المبادىء  يُعانون كثيراً، و هذا ما تعبّر عنه والدة سلفاتور(الوفاء ليس شيئاً جيّداً، إذا كنتَ وفيّاً فستجد نفسك وحيداً). و مِنَ الجُمَل الّتي لا يمكنني نسيانها، قول آلفريدو لسالفاتور:(ليست الحياة ما شاهدته في السينما، الحياة أكثر صعوبة). يُتيحُ لي هذا أن أقول: (إنّ الغرض من الفنّ ليس نقل الواقع أو شرحه و تشريحه، و إنّما أن يجعل الحياة مُحْتَمَلَة إلى حَدٍّ ما.)

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com