همساتُ صدفة
(الرابع عشر من فبراير/ شباط)
بقلم هند أبو القاسم
كاتبة وباحثة سوسيولوجية من المغرب
الرابع عشر من فبراير/ شباط ، هو يوم ليس كباقي الأيام، ربما لأن العشاق جعلوا منه عيدا للحب في كبد الشتاء، ليذيب بدفئه صقيع شهوره الباردة، فمن جميل الصدف أن سطرا من أسطر حياتي كتب بمداد الشغف في مثل هذا اليوم، وكان هذا القلم بين أنامل من يكون الهوس ثالثنا كلما حضرت أنا وكتاباته، أعانق مولوده الورقي فأشعر بدفء، دفء ليس مرده لاحتراق فيزيائي يكون الأكسجين والشعلة الثنائية المؤسسة له، بل احتراق لوعة، يكون قلبي حطبه وأنا الأنثى لا أبالي، ألم يقل أبو القاسم الشابي *” لا أبالي… وإن أريقت دمائي فدماء العشاق دائما مباحة.”*
هاجس الوحدة يظل المهيمن على العاشق الذي يضع شعور الفقد نصب عينيه، لهذا تراه يخزن زاد النظرات واللمسات في الشهور السمان، لأنه متوجس من أشهر القحط العاطفي التي قد تأتي على حين غرة، وزادي أنا العاشقة كتاباته، تلك التي يسطرها في أشد لحظاته خلوة، ثم ماذا لو صرت أنافس أجندته في لحظات اختلائه بها؟ لا يهم…أليس الخيال مرتع الحالمين؟
*” من الضروري أن نقع بالحب، على الأقل سيكون سببا للبؤس الذي يغمرنا بكل الأحوال.”* هكذا تحدث لسان حال الكاتب الفرنسي ألبير كامو، فعلى الرغم من كوني أنثى أخالفه في الجنس إلا أنني تلمست في ظلمة الحياة ورتابتها روعة البؤس المتولد عن الحب، جميلة هي بداياته، ومرهقة لهفة الشوق والترقب، بل و ملهم هو الثراء العاطفي وشعور الإمتلاء الذي تخلفه همسة حبيب أو غمزة عاشق، تفاصيل صغيرة قد تعادل ثروة في بورصة العشاق، كما قالت أحلام مستغانمي في لحظة زهو مشاعرها: “أثرى النساء أنا، لست ثرية بما أملك، ثرية لأنك تملكني!.”
اليوم هو يوم الجمعة، خرجت أمارس عادتي الروتينية التي كلفتني بها جدتي منذ صغر سني، تلك الشعلة العاطفية التي تدفئ بيتنا، كلفتني بزيارة قبر حبيبها جدي كل أسبوع، تتفنن في توضيب باقة ورد أضعها عند شاهد قبره، كانت تفعل هذا بنفسها بل وبكل حب، لكن الروماتيزم جعلها طريحة كرسي متحرك لا يقوى على صعود المقبرة المنتصبة على التل، جدتي تؤمن بأن الحب يصل للموتى، فكيف لا يصل للاحياء الذين لا تزال أفئدتهم نابضة بصدورهم؟
تقول لي دائماً:” الحب هو الذي لا ننتظر منه شيئا، الحب هو العطاء الأبدي اللامتناهي، لا تسمحي بأن تنطفىء لهفتك للحب يا ابنتي، احترقي حبا يا فتاة، وإياك أن تجعلي قلبك أرضا خلاء مهما حدث” هي لا تعلم ان نار عشقي إلى ذلك الغريب تلهبني في لحظات وتفحمني في أخرى، لكنني كنت طائر العنقاء في تجدده وانبعاثه من رماده.
أسير بباقة الورود إلى ذلك القبر الذي أراه هو ملاذ العشق الأبدي والحقيقي التي انحدرت منه أسرتي، اقتربت من المكان بتوجس كبير خشية أن أكسر سكون المكان، فإذا بي أسمع صراخا وضجيجا بجوار قبر جدي، افترضت أنه زائر جديد ودع الحياة الدنيا وجاء إلى بوابة الحياة الأخروية، استسلمت للحظات من التأمل..
.. لحظات من التوقف عند سؤال الوجود والعدم ..أتممت طريقي محاولة التخلص من أرق السؤال، فإذا بي أسمع أنينا خافتا غريبا في مكانه ويبدو مألوفا في صوته، شعرت بالألفة معه وكأنه مني وأنا منه، كان لشخص واضح أنه من عائلة المفقود متكئا على كتف صديقه، تملكتني رغبة كي أعرف مَن الميت الذي سيجاور جدي في خلوته، اقتربت نحوه أكثر فإذا بي أسمعه يقول: ” لم يكن أبي فقط بل كان أباً للجبليين العظماء والشهماء ، أبي كان إماما و قيما على أمور المسجد، إيمانه و زهده ينافس في عليائه شموخ جبال الريف المقاومة!”
لم أصدق ما رأيت، هل حقاً هذا من أشعل في قلبي كل هذا الحريق على مر كل هذه السنين، نعم هو، تمعنت في ملامحه الحزينة سارقة تلك النظرات، اعتادت نفسي على فعل ذلك كلما اشتعلت نار شوقي إليه، تذكرت حينها قول محمود درويش:”اسألني عن اغتنام الفُرص، أخبرك عن النظر إليك دون انتباهِك، إنَّ البهجة التي يخلقها وجودك، تجعلني أتحمّلُ أيّ شيء.”
ركضت هاربة وأنا أرتجف من سؤالي أحقا هو أم أن خيالي صار يهذي ويمزج بين الواقع والخيال؟
الكثير من الأسئلة شغلت تفكيري، وفي اللحظة التي استدار فيها تسارعت نبضات قلبي، فإذا به رآني، أيقنت أنه هو، إنه ليس خيالاً، نعم يا قلبي هو ذاك، تملكتني رغبة جارفة في أن أعانقه وأكون أنيسته في حزنه وانكساره، كان صوت وصية جدتي يتردد صداها بأذني، حين قالت لي ،” ارتمي بنار العشق يا ابنتي”، لربما رأت الجمود الذي يبديه مظهري الخارجي، فخلصت لكوني حلبة صراع بين البرود الظاهري وشعلة الحب المتقدة في الفؤاد، فكل شيء داخلي كان يقول لي أطلقي العنان وارتمي بين أحضان حبيبك، فعلى الأقل ثمة سبب لذلك، أيقنت أن لوجوده قوة تزعزع كياني، وتشرح هذا الصدر الذي لطالما كثم لواعج الشوق. وما كان مني في تلك اللحظة سوى خيانة جدتي في باقة الورود التي منحتني اياها، أمسكتها بكل ما أوتيت من شجاعة، محاولة التماسك حتى لا تختل مشيتي أمام نظراته التي ترصد تحركاتي، كسرت حواجز العادات ومراسيم الدفن و أمام الجميع ناديته باسمه، كانت لحظة ساحرة حقاً، تستحق أن تكون ايقاعا موسيقيا، أرقص على إيقاعه لشدة سعادتي حينها، كان يبدو على ملامحه الإستغراب والتفاجؤ بوجودي هناك، هو لا يعلم أن وجوده يستوطن قلبي دائماً وأبدا، اتجه نحوي آتيا بخفته ورشاقته التي لم تنل منها نوائب الدهر.
لا أعلم من أين أتيت بتلك القوة لكي أقدم له سبب وجودي وأسمى تعابير العزاء، كنت أقول شيئاً وملامحي تقول كل شيء، و هو القارئ الماهر يجيد قراءتي، كعادته ينظر إلي ذات النظرات عندما يرغب في تشفير ملامحي، هو يعلم جيداً ما أشعر به، بعد لحظات ارتجال خلتها دهرا، شكرني بأسمى عبارات الشكر والعرفان، منحته تلك الورود مودعة إياه، وفي قلبي جمرة تحترق قد أشعلها وجوده من جديد…
في لحظة الرحيل تلك توشحت نفسي السواد، ليس حزنا على فقده هو، بل على قلبي الذي تركته معه من جديد. وما هي إلا خطوات حتى سمعت عبارته قائلا: أرجوك توقفي!
شعرت حينها وكأن قلبي سيقتلع من مكانه لفرط اختلال النبض في لحظة، غير مصدقة ما سمعته، التفت إليه بذات النظرات التي كانت هي الوسيلة الوحيدة بيننا في إيصال ما نرغب في قوله، فإذا به يقول لي” أنا لا أحتاج للورود، أحتاج إلى يديك الناعمتين الحنونتين، أريد سجنا مؤبدا بين ذراعيك، فالعالم صار أضيق من حضنك “
اقترب تجاهي أكثر، ثم أضاف: “أحتاج أن أشمك أنت لا الورود، عطرك الجميل، العذب، الدافئ يشعرني بجمالية الحياة حولي، لا تذهبي أرجوك.. فأنا أحتاج إلى حبك الدافىء الآن”.
آه لو يعلم أنه لو أن زهرة نبتت في كل مرة فكرت فيه، لمشى في حديقة لا حدود لها…
اقترب مني أكثر وقال: يظل المرء يعيش طفلاً حتى يموت والده فجأة يشيخ، همس في أذني قائلاً:
“هلا سمحت أن يكون هذا اليتيم طفلك بعد الآن”
من كان يعلم أنه سيكون ميلاد عشقي بك هو مقبرة، أسميتها “عشق في المقبرة”؟ ، فما كان لي سوى أن أرتمي بين أحضانه، وأصرخ قائلة: “أنا أحبك، أحبك، أحبك يا هذا “
في هذه اللحظة بالذات تدخلت الجدة بخطواتها المتثاقلة ولم يوقظني إلا وخز عكازها على بطني وهي تقول: ” استيقظي فجدك ينتظر في مقبرته وحيدا، ينتظر مني باقة الورود لكي تؤنسه في وحشته!”. زمن من الوقت وأنا أنظر تجاهها بكل اندهاش وفزع وخوف.. أيعقل أن يكون كل هذا فعلا حلماً ؟
تكرر جدتي حديثها وتسألني: من هذا يا عصفورتي الذي تصرخين باسمه بأعلى صوتك وترددين أحبك أحبك؟
كيف لي أن أبوح لها بأنها همسات صدفة زارتني في الحلم؟
حاولت المسكينة تأويل رؤياي مفسرة إياها أن شيئاً جميلاً ينتظر قلبي في تلك المقبرة الموحشة.
أخذت الباقة وذهبت مسرعة للمقبرة باحثة عن هذا الشيء الجميل، فلربما همس الصدفة حلم سيتجسد في الواقع، فمن يدري؟!
خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة