وليد الأسطل.
(السيّد إبراهيم و زهور القرآن) فيلمٌ شاهدته و روايةٌ قرأتها، للرّوائي الفرنسي (إيريك إيمانويل شميت)، الّذي أراد من وراء كتابتها توجيه دعوة للتعايش، دعوة للسّلام الّذي هو أعظم قضيّة في العالم، كما يصرِّح بذلك (هارولد بيرجهاوس) في مسرحيّته(ستار دخان). مَرَّ زمنٌ غير قليل على اِطِّلَاعي على هذا العمل في شكله الرّوائي و في مُعادِلِهِ البَصَرِيّ، لكنّني لا أذكر أنّني قد وقفتُ على اِختِلافٍ ذي بال بينهما، على الرّغم من مبايَنَة المَنطِق السّنيمائي للمنطِق الرّوائي.
أعادت هذه الرّواية تذكيري بجملةٍ، كثيراً ما طَرَقَت سمعي أثناء طفولتي، بل لازالت تطرقه إلى اليوم بين الفَينَةِ و الأخرى في وسائل الإعلام الفرنسيّة، إذا حضرَت مناسبةٌ ما تقتضي الحديثَ عن الشَّرق و حَضَارَتِه، هذه الجملة هي(سِحر الشَّرق). يريد المؤلّف أن يقول لنا مِنْ حَيثُ يدرِي أو لا يَدرِي أَنَّهُ، إذا كان العِلمُ و المعرِفَةُ مصدرهما الغَرب في عالَمِ اليوم، فإنَّ الحكمةَ كانَت و لا زالَت شَرقِيَّةَ المَولِدِ و الدّار، فهو يعرِضُ لنا الشارع الأزرق في حَيّ فوبورج مونتمارت الباريسِيّ في ستّينات القرن الماضي، و هو ممتَلِئٌ بِبَائِعَات الهوى، كاِنعِكَاسٍ لِمَوتِ الإنسان الغَربِيّ روحيّاً، كما سيقرِّر ذلك فيما بعد الفيلسوف الفرنسي الشهير(ميشيل فوكو) في آخر محاضرةٍ له في كلية فرنسا.
(يبدو الأمر كما لو كنت أنحدر بينما كنت أتخيل أنني أصعد. ففيما كنت أرتقي في نظر الرأي العام، كانت الحياة تضيع مني. و الآن بعد كل شيء لم يبقَ سوى الموت) (ليو تولستوي، وفاة إيفان إيليتش)
وللتّأكيد على هذا المعنى يُبرِز لنا المؤلِّف أيضا الرّجل اليهوديّ الغربِيّ والد الطفل موسى كإنسانٍ سَوداوِيّ المِزاج، لم تستَطِع ذاكرتُه تجاوز الفظائع الّتي عاشَهَا في معتقلات النّازيّين خلال الحرب العالَمِيّة الثانية، فينتهي به الحال إلى الإنتحار، بالرّغم مِن اِمتلاكِهِ مكتبة هائلة في مَنزِلِه، و حرصهِ الشديد على النّهل مِن ذخائِرِها في جوٍّ منَ الصّمت المُقَدَّس.
في الجهةِ الأخرى يُسلِّط(إيريك إيمانويل شميت) الضّوء و بإلحاح على حكمة السيّد إبراهيم البقّال التركيّ، و المسلم الصّوفي المُتَسَامِح، فهو لا يُظهِرُهُ إلّا متهَلِّل الوجه، دائم البِشر حتّى في لحظاتِ احتضارِه، رغم تواضع معلوماتِه، هذا الوصف يُجَسِّدُ أمام ناظِرَيّ تعبيراً كنت قد قرأته لأحد النقّاد الأدبيّين الأمريكان عن جبران خليل جبران(إنّ جبران حَدَثٌ في السنّ و لكنّه شيخٌ في الحياة، و لا عجبَ في ذلك، لأنّ معلّمي الإنسانيّة يجيئون دائماً منَ الشّرق).
لا يغيب عن عين كل قارئٍ و مشاهدٍ نبيه مدى الإنحياز الّذي يُبدِيه(إيريك إيمانويل شميت) لروحانيّة الشّرق على حساب ماديّة الغرب. و إن كان هناك مشهد لم يرقني، لكنه لا يؤثر على السياق العام ذي النظرة الإيجابية للإسلام. فخلال الرحلة التي يصطحب فيها السيد ابراهيم معه موسى إلى تركيا يمرون بعدة مدن و أماكن. يدخله إلى دور العبادة معصوب العينين، ليتعرف على كل دين من خلال رائحة دور عبادته. في كنيسة القديس انطوان، يقول موسى و هو معصوب العينين كما تقدم:(هنا توجد رائحة الشمع، إنها كاثوليكية). و بعد ذلك(هنا توجد رائحة البخور، إنها أرثوذكسية)، فيرد السيد ابراهيم:(نعم نحن في كنيسة القديسة صوفيا). (هنا توجد رائحة الأقدام، إنها إسلامية. الحقيقة إن الرائحة هنا شديدة للغاية)، (إنه المسجد الأزرق). لا تتوقع أن يعجب بك الآخر إذا لم يكن لديك ما تقدمه. فعلى طول الفيلم و على مدى عمر العلاقة القصيرة التي جمعت بين السيد إبراهيم و الطفل موسى، لم أتوقف عن رصد قدرة السيد إبراهيم على إبهار موسى، فقد أوضح لنا بمنتهى البساطة أن من أهم أسباب التأثير في الآخر قدرتنا على إبهاره بشكل مستمر، ذلك أن العلاقات كالحياة، لا تقاس بطولها و إنما بنوعيتها، بلحظاتها الاستثنائية أو دعوني أقول بالإثارة الموجودة فيها، و لعل هذا هو السبب الأساسي لتأثير الحضارة الغربية على عالمنا اليوم. الاختراع، التجدد، الخلق بشكل دائم.(لا أحد يشتري ورقة يانصيب منتهية) فيلم The Lunchbox
يحتاج من يمارس فن المونولوج أحياناً أن يضع على وجهه أقنعة لكي يتمكن من التنقل من شخصية إلى أخرى فيكون أكثر إقناعا، لكن في نهاية العرض ينزع كل الأقنعة و يقف ليحيينا، فنرى وجهه الحقيقي. لا تقدم للناس ادعاءات فارغة لإنها مجرد أقنعة.
في علاقتنا مع الآخر، أيا كان هذا الآخر، علينا أن لا يكون كل همنا منصباً على الحفاظ على الاستقرار فحسب، ليكن همنا الحفاظ على روح البدايات أيضا، على الشغف، على السعي الدائم لإثارة الإعجاب. و هذا ما فعله السيد ابراهيم.
أهم نقطة تحسب ل إيريك إيمانويل شميت، أنه لم يكرس الأستذة التي يحاول الغرب دائما و أبدا أن يمارسها على الشعوب و الأمم الأخرى و هي فكرة مسيطرة على الغالبية الساحقة من الأعمال الأدبية و السينمائية الغربية إذا ما تطرقت للآخر، فكرة “احنا العالم و الباقي هسهس”، العالم هو نحن، و نحن هم العالم، أما البقية فهمج و برابرة. و رواية روبنسون كروزو خير مثال على ذلك.
العكس تماما هو ما فعله ايريك ايمانويل شميت، فمنذ بداية الرواية أو الفيلم اللذين هما شبه متطابقين، لا يتوقف السيد ابراهيم عن منح الحكمة و الفلسفة و الحب و ترديد جملة (إنني أعرف ما في قرآني). تأملوا معي مدى عمق هذه النصيحة التي قدمها السيد ابراهيم لموييس عندما حدثه عن حبه لمريام، و رفض مريام لحبه(لا عليك، فهي لن تستطيع تغييره، كل ما في الأمر أنها لن تستمتع به، إن ما تعطيه يا مومو يظل لك طوال العمر، أما ما تبقي عليه فهو ضائع إلى الأبد.)
لقد فهم ايريك إيمانويل شميت الإسلام أفضل مما فهمه الكثير من المسلمين، و أترك لكم ضرب الأمثلة في هذا الباب.
لا أستبعد أن يكون ايريك إيمانويل شميت قد أراد أن يوجه بطريقة غير مباشرة رسالة إلى المسلمين كذلك(هكذا ينبغي عليكم أن تكونوا) رسالة تقريعية يقبع في أعماقها قول عتريس في فيلم الحرافيش حين رأى ما آل إليه أمر سليمان الناجي من سوء، سليمان الناجي الذي نسي أن الفتونة أخلاق بعد أن انصاع لغواية السلطة و المال، تخلى عن أصله المشرف المتمثل في زوجته الأولى فأصابه العار الذي تجسده سنية السمري زوجته الثانية(نبوت الناجي إللي ياما خوف ناس بقى عكاز يتسند عليه المكسحين).
عذراً التعليقات مغلقة