الفيسبوك والشخصيات الرخوة

محمد بصري

باحث من الجزائر

عقلنا الجمعي مازال يعاني أعطابا ثقافية وسياسية فلم نصل بعد المستوى الانساني بمعناه الكوني والذي ناضل من أجله فلاسفة التاريخ العربي القديم. فالنماذج العربية الكلاسيكية كالفارابي والكندي حاولا جاهدين الانتقال بالإنسان العربي من أفق البداوة والاستلاب الميتافيزيقي إلى المدنية والواقعية تأسيا بالثقافة الاغريقية التي نجحت في جعل الإنسان الاثيني سعيدا بمواطنته وحريته وقدرته في الانسجام مع بني جلدته.

الفرار إلى الحوار والسماءلات العقلانية جعل فلاسفة العرب مثل صعاليك الشعر لا يتعاطون الفلسفة إلى داخل الاقبية و خلف الجذران السرية وليس غريبا أن تنشأ جماعات سرية وباطنية كإخوان الصفا وخلان الوفا وغيرها من المنبوذين فقهيا وعقديا وفكريا.

لشخصية الرخوة هي أكذوبة فيسبوكية جديدة فالجليس الافتراضي هيولي زئبقي سائل يعاني هشاشة وجودية وانفلاتا أنطولوجيا وترديا قيميا

الشخصية الرخوة هي أكذوبة فيسبوكية جديدة، فالجليس الافتراضي هيولي زئبقي سائل يعاني هشاشة وجودية وانفلاتا أنطولوجيا وترديا قيميا

نحن لم نستوعب بعد الثقافة المركزية الغربية التي انتقلت إلى تزمين حضارتها وترتيبها وفق الأفاق الالكترونية، لم نقدر على مواكبة العالم السيبراني والرقمي لأننا لسنا نحن من صنعه وابتكره فتحول إلى ساحة للتناطح على طريقة جواميس الاسبان أو مصارعة الثيران ” الطوريرو والماتادوري”. لم نقدر على تكهن ما ستؤول اليه نتائج هذه الهدايا الرقمية التواصلية المسمومة أو ما دعاها بعضهم “وسائل التواصل الاجتماعي” التي قدمها لنا الغرب .
أقل ما يمكن قوله أن الفضاءات الزرقاء والصفراء والخضراء عطلت المعنى الحقيقي للإنسان كموجود وكائن واقعي وحولته إلى رقم تافه .القدرة الترميزية للتفاهة كما يقول “آلان دونو” عبث جديد يضاف إلى هذه الحضارة الضالة حيت أصبح للتفاهة نظام وشبكة ونسق وهنا تكمن الخطورة الحقيقة على الإنسان العربي المعاصر الذي هو قيد التشكل الانسانوي.
في كتاب جميل للسيد ولد أباه المفكر الموريتاني عنوانه “الثورات العربية” يتحدث عن ورطة الفيسبوك ودوره المريب في تأجيج الثورات العربية والاجتماعية ويعتبر أن هذه الانتفاضات كانت ناقصة لأنها بدأت الكترونية.فبعيدا عن التحليل التآمري القبلي يرى أن وسائل التواصل الاجتماعي أجهزت على الهويات الجماعية وأقامت مكانها هويات فردية ضيقة أشبه بالحميميات التافهة الانعزالية فأكثر البشر إدمانا على الفيسبوك هم أكثرهم انعزالية وعدوانية وقابلية للانهيارات العصبية.

الشخصية الرخوة هي أكذوبة فيسبوكية جديدة فالجليس الافتراضي هيولي زئبقي سائل يعاني هشاشة وجودية وانفلاتا أنطولوجيا وترديا قيميا.فالاعتقاد الواهم هو أن وطنه الأزرق هو البديل للواقع الذي انتهت فيه كل فرص اختياراته الحرة والشجاعة.ما يصنعه الفيسبوك هو صداقة عديمة الجدوى كما يقول ” السيد ولد اباه” هي جرأة تعويضية غير واقعية.وكأن الإستقواء بهذا الفضاء السيبراني هو إحياء للثقافة العدمية .

أي إنهاء كل عرى المفاهيم التواصلية الاجتماعية التي راهنت عليها الثقافية العربية الاخلاقية النبيلة والتي تحدث عنها الجاحظ وأبو حيان التوحيدي كالمروءة والصحبة والبهجة والمحبة.في القديم كانت الثورات تقوم على أساس حراك وهياج واقعي متواتر وعارم وغير منضبط وانبثاقي يخضع لشروط مادية وأخلاقية .

لكن في ظل الشبكات الاجتماعية تميعت الثورات وأصبحت مخملية منهكة إلكترونيا.حيث ضاعت عنكبوتيا كما تضيع الفرائس في أوهن البيوت اي “بيوت العناكب”. يقول هذا الكاتب أن الفيسبوك قوَّض علاقاتنا وأحدث حالة نفاق اجتماعي غير مسبوقة في أوساطنا الثقافية وكشف ازدواجية الشخوص التي نتعامل بها الكترونيا وواقعيا. كل فلاسفة التاريخ راهنوا على القرية الكونية وإذا بهم يصطدمون بالقرية غير المندمجة السائلة.

إنسان ما بعد الحداثة وما بعد الديمقراطية هو كائن مفرغ من روحانياته من أواصره الدينية من بعده القيمي والثوري إنه كائن رقمي الكتروني ضعيف واقعيا لكنه أسد هصور وراء أزرار مفاتيح كمبيوتره أو هاتفه النقال. لله الامر من قبل ومن بعد .
الهوامـش
المرجع كتاب السيد ولد أباه “الثورات العربية الجديدة المسار والمصير ص 39/40/41