رحموني عبدالكريم
باحث من الجزائر
في الكتابة يملأ اليراع الصفحات، يشق عباب موج اليم بالكلمات، يكتب، يشطب، يرتب يوضب، ينبض بحجم مفردات تزدحم عليه، تتدفق كسيل عارم حطه الفكر على ثنايا صفحات منسية، مبعثرة هنا وهناك، مهمشة مرمية، مصفوفة على أدراج المكتبات، ، متناسية بين صفحات الكتب، غائبة بين قراء ونقاد.
مطر مدرار من مفردات حبر سودت بياض الورقات، آبى اليراع يقذف بها، يملأ الصفحات، تغشي الكلمات القلم تطلبه حثيثا.
رجاء أيه القلم لا تنضب، لا تكتب،لا تخط وتخربش، من يقرأ الكلم والكلام؟ من ينظر ويرقب الكتابة والمكتوب والكتب؟
من ينقد كلماتك يا قلم؟ من يمحص، يتفحص مفرداتك يا يراع؟
وهل الناقد تمعن فيما تبدع من أفكار وتخرج من نصوص و تكتب من مقالات؟
- غربة اليراع:
قد وَلّى عصر التدوين و الإبداع، القراءة و الكتابة، وانقضى ما كان بين الكتاب والنقاد وغيبت صفحات التواصل الاجتماعي القراء والنقاد كذلك. أحجم الكتاب وألجمت ألسنتهم وانكفأ يراعهم، وطويت صحفهم وجفت أقلامهم، لا ابن هشام ولا ابن كثير،لا جاحظ ولا همداني بمقاماته، حتى الوليد بن رشد أسيء فهمه، أبعده الفقهاء عن وطنه والتوحيدي سئم العصر والزمان فاحرق كتبه،ولا العقد الفريد لابن عبد ربه نسي، صرمت حبات العقد جواهر منسية واندثرت في غيابت الجب.
لماذا تكتب يا قلم؟
التوحيدي مات غريبا، جفاه قارئا حبيبا، ما لبث المسكين أن أحرق ما لديه من مصنفات، تاركا لنا بعض المؤلفات مثل: رسالة الصديق، الرد على ابن جني في شعر المتنبي، الإمتاع والمؤانسة، معبرا فيه عن انصراف الناس عنه، وقسوة الحياة عليه، فكف أبو حيان قلمه قائلا:« لقد كل البصر، وانعقد اللسان، وجمد الخاطر، وذهب البيان، وملك الوسواس، وغلب اليأس، من جميع الناس» [1]
وكذلك الجاحظ هوت المكتبة عليه من شدة القراءة والتأليف فأبدع مكنونات وجواهر منسية، كتب قلمه مؤلفات فنية أغنت اللغة وآدابها مفردات قوية: الرسائل الإبداعية، البخلاء، الحيوان، البيان والتبيين، وكتاب العثمانية، يقول الجاحظ في كتاب المحاسن والأضداد: «الكتاب هو الجليس الذي لا يطربك والصديق الذي لا يقلقك والرفيق الذي لا يملك والمستمع الذي لا يستزيدك والجار الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالنكر ولا يخدعك بالنفاق….الكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك » [2]
لمن يكتب قلمك يا جاحظ لقراء شغلتهم صفحات التواصل الاجتماعي عن مطالعة الكتب، ونقاد انبهروا بالآخر معجبين بنقدية الفيلسوف الألماني فريديريك شلايرماخر و مدرسة فرنكفورت، بنيوية ميشال فوكو وتفكيكية جاك دريدا.تأويلية غادامير وبول ريكور.
لمن تكتب نصوصك،مقالاتك، إبداعاتك يا قلم؟
- القلم بين القراءة والنقد:
فقد عافى اليراع خرافات نصوص منسية غيبها القراء، عافى حبره خرافات النقد والنقاد، عافى حبره انتقادات هدامة تبضع النصوص تشيئها وتقرأ كلمات هنا وهناك تبني نقدها عليه «بقدر قيمتك يكون النقد الموجه لك» [3]
أجل يا أقلام الكتاب أبدعي “لا تأسوا، فإن ما تتوجسون من نقد أو تجاهل هو كفاء ما أوتيتم من طاقة ورسوخ.” [4]
ما زالت تكتب تخاطب، ترسل المعاني تعبر،تظهر بكلماتك، تنبثق بمفرداتك، جبلت على الكتابة، تنتظر تجليات الحروف.
عبد الله شريط خاصم قلمه المفهوم في مؤلفه معركة المفاهيم لكنه رحل دون أن تذكره أقلام المثبطين، الناقمين والشامتين يقول عبد الله شريط:« نحن نميل بطبعنا إلى التعود على السلبيات أكثر من الإقبال على الإيجابيات.وعندما نريد أن نفكر ننصرف أولا إلى الانتقاد:إلى انتقاد غيرنا طبعا، وتحميله المسئولية فيما نعانيه، السلبية هي أن لا أفعل شيئا، وإن فعلته فهو تهديم ما بناه غيري. وكادت هذه العادة أن تصبح مرضا مزمنا مع مرور السنين والأجيال والقرون.»[5]
- الأقلامُ الناقدةُ المرشدةُ:
الحق أنني قد رأيت قلما جاهدا في طلب النقد فهو الغاية بعد كل غاية والجامعة أسمى من كل جامعة، لأن النقد موقف فكري ووجهة نظر مكملة للحياة، شريطة أن يكون النقد من طينة الناقد؛ فالناقد الذي ينقد بمناهج وضعها غيره لا ينفع نفسه و لا ينفع الكتاب اللذين أبدعوا نصوصهم، ولا يقدم نقدا ينتشل الكتاب من ضياعهم، ولا يضع سلما يرتقى به القراء في تعاملهم مع تلك النصوص، يقول ميخائيل نعيمة في غرباله:« فالناقد مرشد لأنه كثيرا ما يرد كاتبا مغرورا إلى صوابه، أو يهدي شاعرا ضالا إلى سبيله. فكم من روائي عظيم توهم في طور من أطوار حياته أنه خلق للقريض. لكنه نَظَمَ ولم ينظم سوى كلام. إلى أن قيض الله له ناقدا رفع الغشاء عن عينيه فأراه أن الرواية مسرحه وليس البحور الشعرية، وكم من شاعر سخر منه الناس حتى كادوا يقتلون كل موهبة فيه. إلى أن أتاه ناقد أظهر للناس مواهب فيه ثمينة، وودائع نفيسة. فانقلب سخرهم تكريما وتهليلا، مثل هذا الكاتب والشاعر هما هدية الناقد إلى الأمة والبشرية.»[6]
إن حظ الناقدين والقراء من الكتابة وقراءة النصوص ونقدها في عصرهم قليل،لكن لا يمنع ذلك القلم بل يجب عليه أن ينادي الإنسان المبدع ويدعوها للوجود رغم استقامة النقد ومتعة القراءة « فهذا ما ليس يصنعه إلا الفكر، ذلك الجوهر الخالد الذي لا مكان له ولا زمان، والذي لا قرابة أقرب منه بين إنسان و إنسان.»[7]
قائمة المصادر و المراجع:
- أبو عمر الجاحظ: المحاسن والأضداد، مطبعة السعادة،طبعة أولى سنة 1324، مصر.
- أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، المكتبة العصرية، طبعة أولى سنة 2011، صيدا بيروت لبنان .
- ميخائيل نعيمة: الغربال،الطبعة الخامسة عشرة سنة 1991 ، مطبعة نوفل، بيروت- لبنان.
- محمد الغزالي: جدد حياتك، الطبعة التاسعة سنة 2005، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، جمهورية مصر العربية.
- 5- عبد الله شريط: معركة المفاهيم، الطبعة الثانية سنة 1981 ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر.
[1] أبو حيان التوحيدي:الإمتاع والمؤانسة، ص 16.
[2] أبو عمر الجاحظ: المحاسن والأضداد، ص 6.
[3] محمد الغزالي: جدد حياتك، ص 189.
[4] المرجع السابق: ص، 190.
[5] عبد الله شريط: معركة المفاهيم، ص 19 .
[6] ميخائيل نعيمة: الغربال، ص 19 .
[7] ميخائيل نعيمة: الغربال ، ص 05 .
عذراً التعليقات مغلقة