بصري محمد
كاتب من الجزائر
لا أحد يزايد علينا نحن العرب في أقاصيص الحب والسخاء فلقد ارتوت أرض العرب من الماء إلى الماء و من النهر إلى النهر و من البحر إلى البحر و شبعت من بطولات الرجل العربي وهو يرسم أجمل النماذج العشقية .
كانت عائشة بنت طلحة التيمية الحميراء وهي سليلة بيت عانق الأدب والسؤدد العربي والإسلامي أبوها صحابي جليل وأمها صحابية وجدها صحابي وأزواجها الثلاثة يمثلون الجيل الثاني من الرعيل الأول. ظالمة الجمال جمعت بين الشعر ورواية الحديث وفاقت نساء زمانها جمالا وبهاءً بل الأعمق من ذلك هو قوة شخصيتها فقد تسامت المرأة وبلغت الكمال في البلاغة والحسن وهي القائلة” إن الله تبارك وسمنيّ بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفون فضلي عليهم،فما كنت أستره، و والله مافيّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد” كان ذلك حين عاب عليها بعض الصحابة طوافها البيت وهي سافرة الوجه . هي أميرة مجلوة بعبق الأصالة العربي بل سلطانة منسية في رمال التاريخ المتحركة.حين يتحول التاريخ إلى رجل يهودبي أسمر يرابي في الحقائق ويحجر على العربيات فضل الذِكر في الذاكرة الانسانية. يروى عنها أن رجلا عربيا منسيا يدعى ابن أبي الذِّئب رمقها بنظرة عابرة وموغلة في الحنق وهي تطوف ببيت الله الحرام فردت عليه بذكاء أصيل وبديهة وفراسة العربية :
من اللائي لم يحجبن يبغين حسبة*** ولكن ليقتلن البريء المغفلا.1
فأجاب وقد سبقه حياءه :”صان الله ذاك الوجه من النار “.هي فتنة عاشت عصر الفتنة بتعبير احمد صبحي منصور .رآها أبوهريرة وهو ماكث بالمسجد وهو من هو في الصلاح والرواية والحفظ تُسْرِع في المشي غاضبة ،متجهة إلى بيت خالتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي ترتدي ملحفة فسبح وقال سبحان الله وكأنها من حور العين. حكي أيضا انها كانت نائمة متدثرة في دثار لها فدخل عليها زوجها مصعب بن الزبير ورمى في حجرها ثماني لؤلؤات تساوي كل لؤلؤة منها ثروة طاغية فاستفاقت وأجابته لنومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ .”كانت هذه المرأة العربية المتشبعة بطباع البدو شرسة قوية عزيزة النفس هي نموذج المرأة العربية التي توقف الزمن عند حسنها وعلمها وصمودها وأنوثتها الطاغية.
رولان بارت شيخ السمياء الادبية بدون منازع تسلل للثقافة العربية الشذرية ..وهو أحد أكبر المفكرين الفرنسيين البنيويين المعاصرين الذين تناولوا اللغة والنص بالتحليل البنيوي العميق أشاد كثيرا بكتاب طوق الحمامة لابن حزم واعتبره إيقونة في تحليل التجربة العشقية واللغة الاستعراضية للحب العذري العربي القديم القادم من فيافي الصحراء وسكون البادية وثبات الفصحى و الذي يتمدد تحت تأثير الشعر المسكون بالمرأة العربية الخجولة الجميلة الرائعة روحا وجسدا .كما يستثمر الالفاظ العربية الجياشة التي لا توجد في أي لغة اخرى كمفهوم الشغف واللوعة ووالشروذ و الهذيان والصبابة بعيدا عن معنى الوجع بمفهومه السريري كما يقول بارت وربما هي الثقافة العربية التي سيّجت الممارسة العشقية و أعطتها بعدها الروحي الهاديء إلى حد الرهبنة فالعاشق العربي يشبه الراهب اليسوعي والصوفي الممتلئ بالوجد واللوعة التي تحرك ذاته وتبدلها من حال الى حال …قيل إن جميل نصحه أهله بأن يتشبث بأستار الكعبة ويدعو الله للخلاص من حب بثينة في إحدى الزيارات للبيت الحرام ما كان من الرجل إلا أن تعلق بأستار بيت الله وابتهل إلى الله أن يزيده حبا وعشقا في محبوبته بعدها جن جنونه وارتقى إلى أساطير الحب الخالد دون أن يظفر ببثية ….العرب يجيدون العشق لكنهم عنيفون وهمجيون في السلطة والسياسة كتبوا أروع القصص وأحلاها في تاريخ الادب العذري لكنهم لوثوا صفحات التاريخ بالدماء تنازعا على الكراسي والسلط وفوتوا على أنفسهم متعة الحب .غلب الهذيان السياسي لوعات الحبيب وتأوهات قيس وجميل.
المتنبي والسخاء:
لم يكن المتنبي على صواب وهو الشاعر الذي ادعى خصالا لم تكن له بل كانت في أجواف الكلمات وبين القول والواقع مسافة كالتي بين الثرى والثريا وهو لم ينصف نفسه في التقَّوُل بالفروسية والسيف والبيداء وبهتها بهتانا كبيرا فكيف ينصف الكرام في سخائهم . غفر الله له .حين قال :
ذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً من الأذَى ***فَلا الحَمدُ مكسوباً وَلا المالُ باقِيَا
وَللنّفْسِ أخْلاقٌ تَدُلّ على الفَتى *** أكانَ سَخـاءً مـا أتَـى أمْ تَسَاخِيَـا.
فالعرب جادت في الضيق وفي غيره وتظاهرت بالجود فهو مكرمة وعلامة ثقافية تتباهى بها القبائل. ولا أعتقد أن السخاء كفضيلة يلتقي مع أضداده كالبخل والرياء .فأضداد القيم لا تتعانق أبدا وهي عصية على المنطق والواقع.والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام قال ” في التضرع والمبالغة في الورع والخوف :فإن لم تبكوا فتباكوا في تلاوة وقراء ة القرآن. وإن كان هذا في فن التلاوة فكيف يكون الحال في علاقاتنا.بالمقابل علم النفس الشخصاني يرى أن الرياء الايجابي هو خاصية بشرية نحتمي به في التواصل .لا يمكنك أن تبدي لغيرك في مواقف ما تبطنه وإلا تضررت العلاقات الانسانية التي تعاني هشاشة في عصرنا الرقمي والنفطي هذا. ولم أجد أبياتا جميلة في الجود والسخاء كالتي قالها حاتم الطائي الذي جمع خصال الطبع والتطبع ثقافة ووراثة وطبيعة حين قال:
وعالةٍ قامَتْ بليلٍ تلومني * كأني إِذا أعطيتُ مالي أضيمُها
أعاذلَ إِن الجودَ ليس بمهلكي * ولا مخلدِ النفسَ الشحيحةَ لؤمها
وتُذكر أخلاقُ الفتى وعظامهُ * مغيبةٌ في اللحدِ بالٍ رميمُها
ومن يبتدعْ ما ليسَ من خِيم نِفسهِ * يدعهُ ويغلبْ على النفسِ خِمُها
وقائلةٍ أهلكتَ بالجودِ مالنا * ونفسَكَ حتى ضرّ نفسَكَ جودها
فقلتُ دعيني إِنما تلكَ عادتي * لكل كريمٍ عادةٌ يستعيده
تفرقت دماء العرب وخصالهم بين الحب والسخاء وغلبهم طبعهم السياسي الخشن.
مراجع
رشد الخيون بعد إذن الفقيه دار مدارك ص107.
محمد بصري كاتب من الجزائر.
عذراً التعليقات مغلقة