رائحة الماضي حين تهب من الاندلس على كركوك

21 أغسطس 2022
رائحة الماضي حين تهب من الاندلس على كركوك

رائحة الماضي

الأندلسية 

د – توفيق التونجي

image1661089298572.png

انها سنة ١٩٥٩ حيث كانت المدينة وابناؤها يستعدون للاحتفال بمرور عام على اعلان الجمهورية، وتزينت شوارع المدينة ،إذ كانت الشركات الكبيرة والاغنياء من اهالي المدينة تقوم بانشاء طاق كبير يزين بالمصابيح الملونة وبسعف النخيل وصور الزعيم عبد الكريم قاسم. كان الاكبر والاحسن تزينا طاق شركة نفط الشمال ( IPC). كانت المسيرات المحتفلة تجوب شوارع المدينة ذو التعددية العرقية القومية والعقائدية. .

ابناء كل قومية من قوميات المدينة كانت تنظم مسيرة خاصة بها. كانت طائرت الهليكوبتر العسكرية ترمي الحلوى وبطاقات السينما المجانية والمنشورات. لكن المدينة عاشت انذاك ثلاثة ايام من رعب واستخدام الشدة والعنف غير المبرر ، كانت نتائجه ماساوية على اهل المدينة انذاك، حيث قتل وسحل العديدين من التوركمان دون ذنب. ثم جاء انقلاب ١٩٦٣ في الثامن من شباط وبدا النظام الجديد بسلسلة من الاعدامات لمن اتهموا بارتكاب تلك الجرائم وللتاريخ كان بينهم ضحايا ابرياء. لا زلت اتذكر جثثهم معلقة في الساحة مقابل بناية المحاكم.  لا تزال قبور شهداء تلك الايام شاهد عيان على مآسي تلك الايام العصيبة. اليوم المقبرة تتوسط المدينة وتسمى ب (مقبرة الشهداء). 

لم يكن بيتنا كبيرا بيت عمالي قرب محطة قطار عرفة الفضي في مدينة سمائها قرمزية وتفوح من هوائها رائحة الكبريت القادم من بابا، كركوك. اذ كان يعمل المرحوم الوالد. السنة ١٩٦٠ ،كنت في الصف الثاني الابتدائي في مدرسة الغربية. لم تكن المدرسة قريبة وكانت تقع في منطقة تعليم تبة وسط بيوت تسمى عرصة وتلك البيوت الطينية للفقراء وكان معظم ساكنيها من الاكراد الفيلية ومن الطائفة الشيعية.  

الجميل انه لا ازال اتذكر بعض زملائي وصديقي الذي كان يجلس بجانبي كان اسمه سعدي واخر اسمه حسين كاكه مان والاخوان ثاني ومحسن اللذان كانا بجيدان الرسم والنحت.كما اتذكر العديد من المدرسين الذين علموني الف باء الحياة ،  لأرواحهم جميعا حيا او ميتا الرحمة والسلام.

في هذا الحي حيث كانت تقام مجالس عاشورا المشهورة في كركوك. وفي منطقة تسعين القديمة (اسكي تسن) و حمزلي وكذلك كانت هناك حسينية قرب سوق الهرج. وكانت تلك الحسينية الوحيدة في مركز المدينة. ابناء كركوك ينتمون الى جميع العقائد فتجد الكوردي الشيعي والسني كما كنت تجد كذلك التركماني ( الرافضي) الشيعي جنبا الى جنب مع السني وهناك المسيحي من كلدان واشورين والعربي والارمني وانقرض اليهود من المدينة تماما وبقى شواهد قبورهم شاهدا على وجودهم التاريخي في المدينة. تسمى بعض الاحياء باسم ساكنيها او العشيرة التي ينتمي اليها سكانها بينما تسمى البعض الاخر باسماء صاحب الارض والبعض حديث لها اسماء رسمية غير بعيدة من السياسة التي انتهجتها الانظمة المتعاقبة على العراق. 

الطريق من البيت الى المدرسة كانت غير ماهولة وبعد 

المرور من امام ببيوت الضباط البيضاء  كان علينا قطع اراضي قاحلة حتى مفرق القطار حيث المدرسة في الطرف الاخر من المحطة المفرق. بناية المدرسة كانت على شكل غرف دراسية تتوسطها ساحة سمنتية واخرى ترابية. اما المصاطب الخشبية المهترية فكانت قاسية، ورغم ان شبابيك الصفوف الدراسية عادة تكون مفتوحة في فصل الصيف الذي يبدأ في واقع الامر مع اعياد نوروز ومع نهايات الشهر الثالث. اما في فصل الشتاء فحدث بلا حرج. البرد الجاف الذي ينخر العظام والتلاميذ يرتجفون من البرد. كنا نصطف كل صباح للتفتيش الصباحي حيث نمد ذراعينا الى الامام بالتوازي  واضعين منديلنا بين ايدينا و ويل لمن نسى ان يقلم اضافره او نسى منديله فعصا المعلم جاهزة ،اما الاستاذ صبحي افندي  البدين فقد كان يمر بسرعة البرق من بين صفوف الطلاب. وكان وجوده مراقبا ذلك اليوم مفرحا للجميع. بينما كان هناك معلمين اخرين امثال الاستاذ اكرم دندن القصير القامة يفتش كل شيئ. ومن نسى المنديل يضرب بالخيزران على كفه وقد كان من المحتمل ان يسعفه احد جيوب البنطال الابيض. اما افضلهم فكان مدرس الإنكليزي عباس افندي المحبوب لدن جميع التلاميذ . كان في ساحة المدرسة  في احدى 

السنوات جاء قرار اجباريا ان يلبس الطلاب الزي الرمادي الموحد. اتذكر بانهم وزعوا على التلاميذ وربما فقط الفقراء منهم على تلك الالبسة التي كانت تشبه ملابس الصينيين الرمادية الموحدة خلال الحقبة الماوية. 

لكن التجربة فشلت وعدنا الى ملابسنا العادية. للعلم في تلك الحقبة لم نكن نلبس الا الدشداشة المقلمة في حياتنا العادية  لكنهم في المدرسة اجبرونا ان نلبس البنطال والقميص في المدارس. حديثي كان عن تلك السجادة التي كانت تزين احدى جدران غرفة المعيشة التي كانت طبعا تتحول الى غرفة النوم مساء. 

كطفل صغير كنت اجلس ساعات اتمعن تلك السجادة واتخيل الحياة في الاندلس. وباتت تلك السجادة والراقصات الاندلسيات تلعب بخيالي سنين طوال. كان على ان انظر اكثر من نصف قرن كي اجد نفسي ماشيا في شوارع وازقة اشبيلية واجوب مدن الاندلس مع  ابن زيدون واتناقش مع ابن خلدون واغازل الاميرة ولادة بنت المستنكف و استمع الى زرياب في قصر الحمراء . اسعفني الحظ الى اصل الى الاتدلس لكني افكر فيكم انتم يا من لا زلتم تحلمون المثول امام جداران حديقة العدل الشبيهة بوصف جنان الجنة في 

القصر الحمراء في مدينة غرناطة. 

سلاما الى تلك الايام وسلاما الى اناس جعلوا من الحياة حلوة حتى في مرارتها.

د. توفيق آلتونجي

الاندلس

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com