البشير القريمدي
كاتب مغربي
في طريقي إلى Valencia بلنسية عرجت على مدينة أصغر منها قليلا، لكنها خالدة في وجداني ربما لارتباط اسمها بالإمام الشاطبي رحمه الله، إنها مدينة Xàtiva شاطبة.. تغيرت الأسماء قليلا لكن كل شيئ هنا يذكرنا بروحها القديمة فهي لم تتبدل بالرغم من المحاولات العديدة لطمسها.أردت أن أزور مسجدها الكبير ودروبها العتيقة.. وصلت إليها بعد نصف ساعة قادما من مدينة Alcoy “القوي”. ركنت السيارة بالقرب من مقر لا كوارديا سيفيل حتى تظل محروسة آمنة..
ترجلت قاصدا قلب المدينة.. وأنا أقرأ أسماء شوارعها.. وجدت المسجد تحول إلى كنيسة يعتليها جرس حديدي كبير، يدق كل ربع ساعة أربع أو خمس دقات.. كانت الكنيسة مقفلة، لم أتمكن من دخولها فبحثت عن مكان يشرف على المدينة لتتضح لي الصورة أكثر، فأحيانا ينبغي أن نبتعد لكي يتضح الأمر وتتغير رؤيتنا للأشياء والأشخاص أيضا، قصدت حصن شاطبة وحاميها من الهجمات الخارجية في مرتفع يؤدي إليه درج به منعرجات عديدة..
وجدت المكان خاليا من الناس إلا من شاب واحد كان يجلس تحت شجرة خروب ويأكل من ثمارها.. ألقيت نظرة على المدينة وتذكرت فاس ومرثية أبي البقاء الرندي.. ترددت قبل أن أطلب من الشاب أن يلتقط لي صورة تذكارية مع مدينة ما تزال تحتفظ بتاريخها وتراثها وتقدمه للزوار في أبهى حلة.
كنت أخشى أن يمسك بهاتفي ويلود بالفرار.. لكني طرت سوء الظن به من تفكيري وبادرته : Perdón puedes sacame una foto porfa?رد قائلا بكل فرح.. ابتسمنا أخذ لي بعض الصور وقال لي: هل جئت تبحث عن الأوراق؟قلت أنا أبحث عن بعض أوراق التاريخ.. شكرته ونزلت قاصدا مركز المدينة من جديد. دخلت مقهى تديره ثلاث نسوة.. وطلبت كافي صولو سين السكر. تبعد بلنسية عن شاطبة بحوالي ستين كيلومترا.
يربط بينهما طريق سيار مجاني وكأنه صدقة جارية من الحكومة الاسبانية.. تحيط بالطريق، المستقيم إلا قليلا، مزارع شاسعة من أشجار البرتقال ذي اللون الأخضر الذي يريح عيون السائقين والعابرين. قطعت المسافة وأنا أقرأ أسماء المراكز الحضرية بينهما وهي في غالبيتها تبدأ ب “ال” أو “بني”. هي أسماء عربية لكنها الان مكتوبة بحروف لاتينية.. Alcántara de Xuquer ،Alcudia، , Alginet، Beneixida،Alberic، Benimuslim..) دخلت المدينة وركنت السيارة في شارع رئيس لا يحرسه بوصفير ثم اتجهت مباشرة لمجمع معماري يعرف باسم مدينة العلوم والفنون. كان المكان يمثل حقا فضاء للعلم والطبيعة والفنون. اجتمعت كلها في تناسق وتناغم مذهلين، أينما وقعت العين رأت جمالا وبهاء، كان الفضاء الفسيح المجمل بوفرة الماء ولونه البلوري الجذاب حقا شركا للعيون وفتنة للرائي.
بعد أن أشبعت عيني النظر في أركان هذا المزار جميعها وفي ما يحتضنه من تحف فنية وعلمية، بدأت في التقاط صور البعض منها وأنا أنصت للغات المتنوعة وأشاهد السحنات المختلفة من حولي أيضا.
تزامنت زيارتي بوجود مصور محترف يلتقط صورا لعريسين ويعمل على تعديل وضعيتهما باستمرار. ينظرون إلى الصورة ثم ينتقلون لركن آخر لالتقاط المزيد، ربما كلما ارتفع عدد الصور كان الزواج إلى دوام.في جوار هذا المزار المبهر أقيم مركز تجاري كبير اختير له من الأسماء Saler وزين بطيمة تناسب الماء والبحر والثروة السمكية. عادة لست من عشاق هذا النوع من الأماكن. لا أدخلها إلا إذا كنت قاصدا شراء شيء محدد.
لكن الشكل الهندسي لهذا المركز ولد عندي فضولا لدخوله فسرت في اتجاهه ودخلت من بابه الرئيس وصعدت في الدرج الكهربائي طلبا لبعض الراحة.. كان المركز يعج بالناس ومتاجره ممتلئة عن آخرها.. يصطف الناس في طوابير انتظارا لدخولها وطلب مبتغاهم من كريم آيس أو وجبة همبرغر.. لمحت من بعيد مكانا يصطف الناس في مدخله.. سرت في اتجاهه ولما اقتربت منه قرأت لافتة علقت بأعلى بابه La casa del libro “دار الكتاب”.. حرك الاسم في نفسي شهية الدخول لهذه الدار. كنت أريد أن أستنشق رائحة الورق في الكتب الجديدة. لم أكن أنوي اقتناء أي كتاب.
فلغتي الإسبانية بالكاد تمكنني من التواصل .. كان الناس بالداخل من كل الفئات العمرية.. عرجت على جناح الروايات تصفحت بعض العناوين الحاصلة على جوائز كانت بعضها مثيرة ومريبة، تحيل على مواضيع ما تزال تشكل عندنا طابوهات لا يتم الاقتراب منها.. في جناح الكتب التاريخية وقعت في الحب من النظرة الأولى.. كانت ترتدي قفطانا أخضر اللون ورداء أحمر يغطي رأسها وينسدل على كتفيها.. اقتربت منها فأسكرني عطرها..
كنت على وشك أن أهمس في أذنها وأقول: ما اسمك ومن أي مكان أنت؟تخيلت ردها بغنج وهي تقول بصوت خفيض لكنه مسموع من عاشق ولهان: اسمي سلطانه وأنا من الأندلس الشرقية.. في هذه اللحظة، ما بين خيال وسحر واقع، تشجعت لمواصلة رغبتي في التعرف عليها ولما لا أن أعترف لها بحبي من النظرة الأولى.. وبينما أنا أدقق النظر في عينيها وحروفها الذهبية فكرت أنه من واجب رجولتي على أنوثتها أن أعترف لها بهذا الحب من النظرة الأولى .. بادرتها قائلا بصوت متقطع: أيتها المرأة الذكرى أعطني يدك كي نسير في مدن الماضي ! الذكريات معك تقودني وأقودها.. يا واهبة السلوان يا سيدة الإياب.. يا تاريخي .. يا قدري .. يا امرأتي من دون النساء.. بك أحتفي ولك أفي.. لن أرتدي حدادي ما دمت معي بل سأسير معك على هدي البصيرة وربما أعطي حكايتنا أنا وأنت سيرة شخصية في رياحين حدائق الذكرى .. نظرت إليّ بعدما نضج الفراق وعلى العيون أزهرت نظرات الوداع وقالت لي بلوعة الهائم المشتاق: كل فراق وأنتَ انتظاري.. كل فراق إليك افتقاري.. فاشهد بأني حرة وحية حين لا تنساني ولا أنساك !كنت أعيش هذا الحلم وأنا أسير بكتاب ” La Última Sultana محمولا في يدي مضموما إلى صدري في اتجاه لاكيس.
أديت ثمنه بالعملة الصعبة مهرا كاملا. سلمني الكتبي عقد زواجنا احتضنت السلطانة وخرجنا نتمشى في الفضاء البراني..
.المغرب
عذراً التعليقات مغلقة