تعيين فوق السحاب
البشير القريمدي
كاتب من المغرب
ما أصعب أن يجمع المرء من المشاهد المتناثرة في ذاكرته خيوط حكاية ليعيد نسجها وإخراجها ثوبا جديدا يحوكُه في الزمن الحاضر. ومما يجعل المأمورية أكثر شصبا هو حرصه أن يكون أمينا في تذكر الماضي دون تحريف أو مبالغة.
أحاول أن أخرج من أماكن شغفتني لأتذكر فصلا من حياتي حدث في مكان كنت أحس فيه أن الزمن قد توقف بي خارج الحياة. هناك في أعالي جبال “تلامزالة” حيث رمتني الأقدار.
وصلنا باكرا إلى مدينة شفشاون، توجهنا مباشرة بعد أن لفظتنا حافلة “لاإيديال” إلى النيابة التي دلنا على مكانها أول شخص قابلناه في طريقنا. قال لنا وهو يحدق في العدد الغفير من أساتذة ما يزالون في ريعان شبابهم وكلهم يحذوهم الأمل في الحصول على تعيين في منطقة قريبة من المدينة: عليكم الذهاب في هذا الاتجاه مباشرة وستصلون إلى الحافة التي ستجدونها في نفس “الهُبطة” المؤدية إلى ثانوية مولاي رشيد.
علقت بذهني كلمة( الحافة) ورسمت لها صورة في مخيلتي.. الحافة!! جرف يهوي بك إلى القاع وربما يؤدي بك إلى موت محقق..
حاولت أن أطرد من ذهني هذه الأفكار السوداء، فأنا مقبل على تجربة فريدة من نوعها سأحمل معها لقب أستاذ.. لم يكن يخطر ببالي أبدا أن التلاميذ الذين سأدرس لهم سينادونني لاحقا: أسا.. أسا أو سا..سا..سا أو سادْ سادْ سادْ في أحسن الأحوال..
في مدخل النيابة وأمام بابها الحديدي كان عدد الأساتذة كبيرا، التقينا أصدقاء من مدن أخرى درسوا معنا في مركز تكوين المعلمين والمعلمات في طنجة، تناسينا للحظات أمر التعيين وخضنا في أحاديث عن ذكريات مرت بنا داخل المركز.. التحق بنا أحد الأساتذة القدامى يناديه الجميع السي حسن. كان يحدثنا بلكنته الشاونية عن تجارب بعض المعلمين ممن سبقونا في ميدان التعليم وعن حجم معاناتهم وكنا نضحك ظانين أن الأمر يتعلق بطرائف ونوادر ولم نكن حينها نعلم طبعا أننا سنجد أنفسنا مستقبلا في قلب تلك (الضرايم).
وبعد قرابة ساعة من الانتظار ،بدأ الأساتذة يتسلمون أوراق التعيين، ويخرجون تباعا وكل واحد منهم يحاول أن يقرأ اسم المنطقة التي ألقت به الأقدار الإلاهية أو (جبادة النيابة) إليها: بني فغلوم.. بني دركول .. بني رزين.. بني سميح .. بني بوزرة.. بني صالح .. أبناء كثر لأسماء نسمعها لأول مرة لدرجة أن الاساتذة كانوا يضعون عليها الحركات الإعرابية. وحينما حان دوري سلمني الموظف المكلف بتوزيع أوراق التعيين ورقة صغيرة كتب عليها اسم ( تلا مزالة) ثم نظر إلي نظرات قرأت من خلالها مباشرة قوله تعالى ” اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ” صدق الله العظيم.
حدقت في الورقة الصغيرة وأنا أحاول أن أتهجى اسم المنطقة.. تالا مزالة.. اسم جميل بقافية متناغمة- رددت في نفسي – كنت أجهل تماما ما سيواجهني في جبالها الوعرة التي سأصبح فيها بطلا في المشي السريع وفي التزحلق على الجليد وأيضا على الوحل وبطلا في الجري وفي الرماية( رشق الكلاب بالحجارة ).. اكتشفت في نفسي هناك القدرة على الصبر والتحمل مجبرا لا مخيرا .. هناك في أعالي الجبال وفي ظروف استثنائية حيث “لا ريزو ولا ماء ولا كهرباء..
لم يكن يعلم أولئك الذين سلمونا أوراق تعييننا أنهم كانوا على وشك توقيع شهادة وفاة أحلامنا..
بعدما تسلمنا التعيين بدأنا نبحث في الخريطة المعلقة على جدار داخل النيابة إلى جانب مطبوعات النقابات، عن موقع المؤسسات التي سنؤدي بها الأمانة، أو بالأحرى سنتعلم بها فصولا من الصبر والصلابة والتحمل.. الخريطة مخادعة، تبدو الأماكن فيها قريبة جدا وفي قبضة اليد. كنت أحاول أن أخترق المسافة الوهمية بين أماكن وأسماء تبدو لي غريبة لم أسمع بها من قبل لكي أصنع منها أفقي الخاص بي. أفقي الذي امتد بي بعيدا عن حلمي المؤجل.
في محطة سيارات الأجرة، كانت الأصوات تتعالى والوجوه تبدو متعبة وقد أصابها نصب وتصببت عرقا من شدة حرارة شهر سبتمبر. كان الكورتي بسرواله الفضفاض وقميصه الذي تمزقت جل أزراره وكرشه المندلق الذي يسبقه إلى الأمام يصيح بأعلى صوته: باب برث..باب برث.. اللي ماشي نباب برث..
اقتربنا منه أنا وزميلي اللطيف ياسين الزيلاشي الذي أُرهِقت مشاعره باكرا وابتلع أوجاعه وتظاهر بالقوة والجلد بينما كان داخله مبعثرا! سألَنا الكورتي عن وجهتنا وقد أمسك ورقة ووضع قلما خلف أذنه. لما أخبرناه بها مط شفتيه ورفع عينيه ناحية الجبال المحيطة بالشاون وكأنه يرتب أفكاره في ذهنه ثم قال لنا: تلامزالة توجد تماما وراء هذا الجبل ولكن طريقها يمر عبر باب برث.. كان الوقت متأخرا فلا مفر إذن من البقاء في شفشاون والمبيت في فندق صغير بباب العين.. كانت ليلتنا هادئة هدوء لم أتعود عليه في طنجة التي لا تنام إلا لساعات قليلة جدا، ورغم السرير المهترئ إلا أنني سرعان ما غفوت من شدة التعب ومن كثرة الأحداث التي مرت بي خلال هذا اليوم ..
استيقظنا باكرا على مكبرات المساجد وقد رفع صوت آذان الفجر عاليا.. توجهنا إلى المحطة. ركبنا في سيارة من نوع مرسيديس 240 تحمل رقم -43 أ- كان السائق يقودها بسرعة كبيرة، فعلت المنعرجات فعلها في الركاب الذين لم يستطيعوا الصمود أمام الميل تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال كأنهم سكارى وماهم بسكارى، فأخرجوا ما في بطونهم من بقايا البيض والزيتون وجبن الماعز.
عندما وصلنا إلى باب برد- كان الجو فيها باردا برودة لم نتعود عليها في مثل هذه الفترة من نهاية فصل الصيف- ركبنا سيارة أخرى أقلتنا إلى اِساكن. أحسست أن الطريق لا منته، واكتشفت أن السحاب لا يوجد دائما في الأعلى فقد رأيت من علٍ مداشرَ يغطيها الضباب بشكل كامل وهو يبدو كسحابة صيف لكنها ليست عابرة. في لحظة أغمضت عيناي واستسلمت لنفسي أحاول التقاط أنفاسي لأصغي إلى إيقاع الحياة وقد توقف دورانها.. لم أنتبه إلى الأطياف التي كانت تحوم حولي في تلك اللحظة الفارقة بين فاصلين زمنيين.. ليس سهلا أن أقفني لأودعني.. ليس سهلا أن أحرمني حلما طالما راودني وأنا ملقى على فراش الحنين.. إنه حلم الالتحاق بالجامعة ومتابعة الدراسة!
إنما المرء ما يحمل في قلبه من فتات الذكريات، وما يخزنه من جداول التجربة.. فالتجربة تعطي والذكريات تؤثث.. التجربة تبني والذكريات تزخرف، وما بينهما توقظنا الشمس وتترعرع الذاكرة، لتعيد للحياة بعض تفاصيلها التي يكاد يحكمها النسيان من كل جانب!
في يوم الأربعاء 5 أيلول / سبتمبر، والساعة تجاوزت الظهيرة بقليل، وصلنا إلى إساكن ومنها توجهنا إلى واوزكان داخل سيارة الميرسيديس 207 التي استُبدِلت مقاعدُها الخلفية بكرسيين خشبيين طويلين وضعا في جانبيها بشكل متقابل ومتواز. كانت الطريق مليئة بالمنعرجات كنا نمسك بالكرسي الخشبي بكل قوة تجنبا للارتطام والتناطح. كانت مكبرات 207 تصدح بصوت الزهوانية، يتمايل رأس السائق مع كلماتها وهي تردد بكل ثقة: — كيشيار عليا من القهوة د ولد عمو، ميعرفني مانعرفو باقا صغيرة احسن منو-.. – قولالو أيما قولالو الناس بالذهب وأنا والو- ويبقى أغرب ما سمعت في هذا النوع من وسائل النقل: “شفتك فرحت شعلت كارو”..
بعد ساعتين وصلنا واوزكان، بدا المكان كصحراء قاحلة تصرصر فيها الرياح الباردة. لم نمكث بها طويلا، لقد كان الحظ إلى جانبنا، صادفنا شاحنة متوجهة إلى تالامزالة، سمح لنا سائقها بالركوب في صندوقها الخلفي، فاتجهنا للتعرف على المركزية التي توجد فيها الإدارة والسيد المدير..
لم تستطع السنون أن تأكل ذكراه في مخيلتي.. رجل في الأربعينات من العمر، حليق الذقن، شديد سمرة الوجه، أسود الشعر، زحف الصلع على مقدمة رأسه، عيناه سوداوان، لا تفتأ أصابعه تتحرك أمام ناظريه حينما يحدثك، يضحك فجأة ويصمت فجأة كأنه لم يضحك من قبل. بعد أن وزع علينا جداول الحصص وحدد لنا اسم الفرعية التي سنعمل بها أنا وياسين -ابراقن- توجهنا إليها والأمل يحذونا في أن تكون منطقة يشملها الريزو، كنت أسير إليها وأنا مشوش الذهن، وفجأة وجدت نفسي أردد : ترى هل بإمكان هذا الطريق الطويل أن يوصلني يوما إلى تحقيق حلمي؟ سألت القابع في أعماقي.. قطع علي رفيف أفكاري صديقي ياسين وهو يقول لي : هذه هي ابراقن ولكن يبدو أنه لا وجود لأي بريق بها، بل إنه لا وجود للأقسام في هذا المكان وسنكون مضطرين إذن لتغيير الفرعية. كان التعب قد أخذ منا مأخذا وكنا نحس أنفسنا قصاصات من الورق تمزقت قطعا صغيرة تناثرت في الفضاء..
بتنا ليلتنا في منزل الفقيه الذي لا زلت أتذكر منه لحيته المنتثرة على وجهه و عينيه الهادئتين، أما ما تبقى من ملامحه فما عدت أذكره فقد غاب في حجب الأيام حتى كأنه ما كان!
نمنا في مضيفة البيت الطيني.. غرفة فسيحة تكومت في جانب منها مجموعة من البطانيات، وتتوسطها نافذتان صغيرتان وضع على طرف أحدها قنديل زيتي صغير قد علاه الصدأ. مرت هذه الليلة كسلحفاة في مضمار سباق.. كان الظلام سيد الموقف، خلت أنني أسبح في أمواج الليل.. باغتني سيل من الأسئلة التي لا تصحو إلا عندما نريد أن ننام. ما أغرب الإنسان ! أمس وأمس فقط كنت أتمنى الحصول على وظيفة حتى ولو في أعالي الجبال، واليوم في هذا المكان ألعن الظروف التي حملتني إلى هنا.. لم يقطع حبل أفكاري إلا صوت شخير صديقي الذي استسلم للنوم، حسدته لأنه نام بينما لا أستطيع أنا فعل ذلك.. تقلبت مرة بعد أخرى، غطيت عيني بساعدي الأيسر ثم عدت لأحدق في العتمة من جديد، في البداية كان من المتعذر أن أرى شيئا، غير أن الظلمة بدأت تستحيل إلى قبس من نور شيئا فشيئا حتى أيقنت أن الإنسان يصنع في الظروف الصعبة عالمه الخاص به. ظلت أحلام اليقظة تطاردني وظل قلق السؤال يصدع رأسي.. استحضرت ذكريات عن طفولتي في المدرسة الابتدائية ثم بدأت تخبو شيئا فشيئا إلى أن سقط رأسي على صدري ثم شعرت بي وأنا أميل على جنبي وأستغرق في نوم عميق.
إنه صباح يوم الخميس، استيقظنا باكرا على صوت صياح الديكة، وبعد تناولنا وجبة الفطور التي قدمها لنا الفقيه والتي كانت تتكون من شاي منعنع وخبز القمح والبيض المقلي المغمور في الزيت البلدي وضع في مقلاة كبيرة مرفوقا بالزيتون المحمض. شكرنا الفقيه على استضافته اللطيفة وعدنا أدراجنا إلى المركزية، وهذه المرة ستكون وجهتنا مدشر بوحرمة.
أول ما وصلنا إلى هذا المكان بعد ساعتين من المشي نزولا من واوزكان. التقينا بالسي عبد النبي والسي أحمد اللذين رحبا بنا واستضافانا في حجرة دراسية حولاها إلى بيت سكني يحتوي على سريرين خشبيين أكلا نصف مساحة الغرفة تقريبا، وبالقرب من كل منهما استقرت مخدة وبطانية، وفي الجانب الأيمن توجد طاولة صغيرة وضعت عليها بعض الكتب والدفاتر، يستعملانها كمكتب للكتابة و أيضا كمائدة للطعام. بعد حديث طويل عن أمور شتى تتعلق بالتعليم و بالحياة هنا في بوحرمة التي تفتقر إلى كل الوسائل اللوجيستيكية، قدما لنا وجبة الغذاء، ولأن التعب وطول الطريق كانا قد هضما كل شيء في معدتينا فقد بدت لنا وجبة العدس هاته شهية جدا جدا ..
وبعد مرور الأيام في بوحرمة، حاولت أن أبتلع ما تبقى من الدهشة التي اعترتني أول مجيئي إلى واوزكان، عشت أحداثا فجائية، وحاولت التأقلم مع وسط زمنه رتيب وثقيل إلى حد الملل، عرفت أشياء كثيرة عن الحياة هنا .. طبائع الناس وعاداتاهم وقوانينهم الخاصة في تدبير حياتهم ، إنهم بحق أبطال حقيقيون يؤدون أدوارهم خارج صفحات الروايات.. علمتني بوحرمة أن أكون تلميذا في مدرسة الحياة، علمتني أننا لا نعرف قيمة الأشياء إلا حينما يعز الحصول عليها، علمتني أن الآمال هي فسحة الحياة، علمتني ألا أهتم لشكل الغرفة التي كنت أعيش فيها أو للسرير الذي كنت أنام عليه أو الحجرة الدراسية التي كنت أدرس فيها .. المهم هو استعدادي النفسي للتعايش مع هذه الظروف، وتأكدت يقينا أنني كنت محتاجا إلى تجربة كهذه لأكتشف أنك بقدر جهدك وتفانيك في خدمة أطفال أبرياء شغوفين بالمدرسة بقدر ما يغدقون عليك من الحب الذي لا يفنى بل ويكبر مع مرور السنين.. هناك أيضا اكتشفت كم أحب حلمي بمتابعة الدراسة وأتوق إليه! حلمي الذي كان شمس نهار .. وقمر ليل.. وطيفا جميلا يراودني في المنام.. كان يكفيني أن يكون لي حلما لأكون أنا أنا .. حلم ينير حياتي كشعلة من ضياء الروح تنتشر في العتمات وكغيمة ممطرة منعشة في صيف لاهب!
هذا الحلم الذي قادني إلى أماكن أخرى بعد عامين ببوحرمة..
النص السردي خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة