الزا نصره
كاتبة من سوريا
وجه هلامي
“هل هذا كابوس؟! “. همست وأنا أفرك عينيّ محملقاً في المرآة بذعر. أمعنت النظر إلى نفسي.. وتساءلت:”مالذي حدث لوجهي؟! إنه يبدو هلامياً مائجاً كالجيلاتين!..تارة يبدو شيطانياً، وتارة أخرى ملائكياً”. تحسست بفزع أذنيّ، ووجنتي وذقني وجبهتي ..كل شيء في مكانه محسوس، ولكن عيناي تريان وجهي يتماوج كصفحة البحر، فيبدو بهيئات متباينة. فركت عيني مجدداً، وقرصت ذراعي بقوة لأتأكد من أنني لست غافياً وأحلم. نظرت حولي في الغرفة. كل شيء في مكانه ..الأرائك، اللوحات، التلفاز..كله يبدو طبيعياً ساكناً في مكانه.. عاودت النظر إلى نفسي في المرآة فتأكدت مخاوفي مجدداً. إذ راح وجهي يتطاول ويتمدد متماوجاً كقالب جيلاتين، تارة بعينين وديعتين وتارة أخرى بعينين شريرتين. استبدّ الفزع بأوصالي ..لم يكن مألوفاً لدي هذا الوضع من قبل. إنها المرة الأولى التي أرى فيها هذا الحال الغرائبي والمبهم.. وبمحاولة يائسة لتفسير ما يحصل قلت بحزم:
“سأذهب اليوم إلى طبيب العيون. العلّة حتماً في نظري. نعم” . فكرت وأنا أتحسس مكان القرصة المؤلمة على ذراعي. مؤكداً لنفسي:”ربما أحتاج إلى نظارة، أو عملية تصحيح نظر”.
ولأهدىء من روعي أعددت كأس شاي ساخن بلون أحمر قاني. جلست أمام التلفاز، لكني سرحت بأفكاري بعيداً عما تعرضه الشاشة الملونة. أخذت أفكر بمجريات الأمور في حياتي، محاولاً أن أستدرج أحداثاً ووجوهاً كانت تتربص في أعماق ذاكرتي. إلا أنني استشعرت صعوبة تحقيق ذلك. يا للهول! بات مؤكداً لي استحالة استحضار وجه واحد بملامح ثابتة وواضحة. كانت الوجوه تتداخل فيما بينها بما يشبه دوامة هلامية بدأت تعصف بهم وتبتلعهم رويداً رويداً.. أمعنت التركيز علني أتعرف على بعضهم، هاهم أوجه الأحبة أمي، أبي، أخوتي، أصدقائي، زملاء العمل ، وجوه أخرى لغرباء، أو ربما لمعارف باتوا أغراباً..مددت يدي في الفراغ لأتلمس أحدها. لكن لم يكن هناك إلا السراب.
عدت لأبحر في غياهب ذاكرتي. تذكرت مكافأتي التي نلتها في عملي بالأمس القريب. وكيف بدت وجوه زملائي. أحدهم تبسّم لي بطيبة ومحبة، فيما بدا وجه آخر ينز لؤماً وحسداً على الرغم من ابتسامات مزيفة غامرة أودعها في جعبتي لمساعدتي له سابقاً. الأسوأ عندما نظرت إلى أحدهم. كانت عيناه تنضحان بنظرات مفعمة بالحقد والكراهية بعيد افترائه عليّ عند المدير، لا لسبب سوى لتحصيل منفعة لا تسمن ولا تغني من جوع. آه. كم كنت ساذجاً، وكم أحسست بألم واخز في قلبي.
” سأنتقم منه لاحقاً “. همهمت لنفسي مواسياً ومستغرباً فالتفكير بالانتقام لم يكن يوماً من شيمي.
هاهو وجه هلامي آخر يتراءى أمامي. لقد تبينته بجلاء، إنه وجه أخي الأكبر الجشع وهو يتزلف إلى أبي ليمنحه حصة أكبر من الميراث. لقد غادرت وجهه تماماً ملامح البراءة والوداعة الأخوية الطفولية..وهاهو أبي العجوز يبتسم له بسذاجة ويمنحه خلسة عن أبنائه مايريد. لم تعد غضون وجه الوالد العجوز تخبرنا عن طيبة خالصة أوحكمة يرثها المرء من طول السنين. في مقابلهما على الجانب الآخر يتبدى وجه أمي من بين الغمائم وهي تبارك بإجلال فعلتهما. إنها أمي التي أحب بلا حدود. بوجهها الملائكي حتى الأمس القريب قبل أن تغادره الرأفة فيتبدى هلامياً متماوجاً بين الجمال والقبح، محيّراً بين الخير والشر. لكن الغريب أنه على الرغم من ضبابية ملامحها لا زالت تملك جناحي ملاك فيما توزع حبها وحنانها بغير إنصاف بين أولادها الكثر.
تنهدت وشددت بقبضتي على صدري. وهمست :” سأحبكم كثيراً جداً وإن لم تفعلوا”.
وبمحاولة يائسة لأواسيني حاولت استدراج صورة حبيبتي هذه المرأة الغريبة التي شاء القدر أن تتقاطع دروبنا معاً. لكنني – ويا للغرابة – فشلت في تبيان ملامحها التي غاصت عميقاً تحت ضباب دخاني كثيف. يا إلهي…ماهذا الذي ألم بي؟! شعرت بنفسي أغرق في دوامة مشاعر وأفكار عصفت بي بعنف. كنت أصرخ مستنجداً ممزقاً مابين الانتقام والمسامحة، مابين الحب والكراهية، مابين الطمع والزهد.
تأوهت بألم ومددت يدي بلا وعي في الفراغ لأمسح على الوجوه، وأمسك بها كمن يمسك حفنة صلصال، علني أعجنها وأعيد تشكيلها كما أحب وأشتهي. لكن عبثاً فقد ظلت تلك الوجوه تتراقص أمامي وهي تضحك بسخرية، وتمد ألسنتها فيما لسان حالها يقول: ” أنت غبي.. تنقصك الحنكة والحكمة لفهم الحياة”.
صرخت بهم:” هذا غير صحيح. إنه كلام عبثي..العمر حفنة أيام ستذروها الريح. الحياة تحتاج حباً ناصعاً يسمو بإنسانيتنا.. السعادة تحتاج زهداً لا تشوبه شائبة”. ظلّ الصدى يردد صوتي بلا مجيب. وهاهو الصمت بعد هنيهة يعمّ.
عدت إلى رشدي. تلفتت حولي، وتحسست وجهي ..”في الظاهر ملامحي ثابتة. لا شيء البتة مريب”.
هاقد برد كأس الشاي الأحمر فيما أنا غارق في سيل أفكاري…نظرت إلى السائل الساكن، فرأيت في قعر الكأس وجهي يتماوج بشكل قبيح ..سرت رعشة وبرودة في جسدي، فقفزت على إثرها من مقعدي وأنا أردد بحزم:” سأذهب حالاً إلى طبيب العيون”.
فتحت باب المنزل وخرجت بسرعة، وفيما أنا أمشي أخذت أتطلع حولي بتوجس وفضول ..السماء صافية، الأشجار يانعة، الزهور نضرة، وجوه أطفال جميلة، قطط تموء على جنبات الطرقات بوجوه محببة، كلاب شاردة قرب حاويات القمامة بوجوه يعتريها الفضول والقلق .. كنت أرى كل شيء بوضوح مبهج وثبات، ماعدا تلك الوجوه البشرية لأناس بالغين كانوا يغدون في الطرقات جيئة وذهاباً. هي الوحيدة في ذاك المشهد، كانت هلامية تموج بشكل غرائبي كالجيلاتين.
*
القصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب- لندن
عذراً التعليقات مغلقة