قيمة اللاوعي عند مدرسة التحليل النفسي

12 نوفمبر 2022
قيمة اللاوعي عند مدرسة التحليل النفسي

رحموني عبد الكريم

رحموني عبدالكريم

    قد يأخذ السؤال عن الإنسان منحى انطولوجيا كما يأخذ منحى معرفيا يحدد الأنا الموجودة التي تتعامل مع هذا العالم الخارجي بغية الإدراك والتواصل مع الآخرين عن طريق الوعي، فأصبح الإيمان بالتحرر من ربق الميتوس والسعي نحو التأمل الفكري خطوة ضرورية لا مناص منها، فلكل عصر في حضارة من الحضارات  أسلاف تاريخية مهدت له من بعض النواحي ويغلب أن يكون تمهيدها له من نواحي كثيرة فكان على الإنسان اليوناني أن يعمل زمنا طويلا قبل أن يستطيع أن يفكر فاستجاب للبيئة الطبيعية متأملا ، منبهرا بالظواهر الكونية الموجودة فيها، حتى دأب الفكر الإنساني الفلسفي الإغريقي الاشتغال على مسائل المعرفة، عندما طرح الفلاسفة الطبيعيون السؤال الكبير من أين جاء العالم ؟

 لقد وجهوا بهذا التساؤل ضربة قاسية للآلهة التي كانت تحكم البشر ويحجون إليها كل أربعة مرات في السنة، فنقلوا الفكر اليوناني من الميتوس إلى اللوغوس بغية بناء نسقا فلسفيا يبحث في نظرية المعرفة ويركز على الوعي وهو حال العصر الحديث الذي أعاد للذات الواعية مكانتها البارزة في الفكر الفلسفي.

  وحول قيمة الوعي المعرفية كان الجدال والمرآء إذ يعتبر الاتجاه التقليدي أن الشعور أساس الحياة النفسية لكن مدرسة التحليل النفسي تنطلق من الجانب المظلم في حياتنا الشعورية، فهل ما يجري في مجالنا النفسي يقع تحت رقابة شعورنا؟ 

وهل حقيقة الحياة النفسية ترادف الحياة الشعورية؟

النظرية العقلية ونفي اللاشعور:

ينطلق فلاسفة النظرية العقلية من الشعور كأساس للحياة النفسية، فجميع الأنشطة المنبثقة من أعماق النفس الإنسانية لا تفلت من رقابة الشعور؛ وهو شعور جد ايجابي وجد ممتلئ متعلق بالحالة النفسية الحاضرة، الواعية التي تفكر وتعي أنها تفكر في الآن نفسه فلا مجال للاوعي هنا، ففكرة اللاشعور لا تشمل الظواهر النفسية بل تقتصر على الجانب البيولوجي كانقسام الخلايا والإفرازات الغددية والأنشطة المتعلقة بالجانب الجسمي، أما الأنشطة النفسية مثل الرغبة والتفكير في موضوع ما فهو لا يخرج عن نطاق ما هو شعوري. ويتبنى هذه النظرية الفيلسوف الفرنسي ديكارت والفيلسوف الألماني فريد يريك هيجل و فيلسوف الحدسية الفرنسي هنري برغسون ( 1859- 1941 ) والفيلسوف الفرنسي آلان Alain ( 1937 ).

واستند هؤلاء الفلاسفة على أدلة عديدة وبراهين متعددة تتضح في: نفى رونيه ديكارت اللاشعور بحجة أن حياة الروح شفافة و لا يمكن أن تجري بها أنشطة نفسية تفلت من قبضة الوعي، كما أسس هيجل للعلاقة بين الأنا والموضوع معتمدا على الرقيب قائلا: « إن الوعي هو العلاقة بين الأنا والموضوع سواء أكان داخليا أم خارجيا ». وهنري برغسون اعتبر الوعي قنطرة نعبر عليها من الماضي مرورا بالحاضر وصولا إلى المستقبل يقول برغسون: « الوعي هو رابط يصل بين ما انقضى وما سيأتي، إنه جسر يربط بين الماضي والمستقبل »[1]

 إن النظرة الفاحصة تبين لنا أن معطيات الوعي غير كافية لتفسير كل تصرفات الإنسان  إذ أن هناك أفعالا وسلوكات تصدر عنا فنستغربها لأننا نجهل أسبابها ودوافعها الحقيقية فكثيرا ما نحزن دون أن نعرف وقد نحاول أن نتذكر فنعجز.  

مكانة اللاوعي عند مدرسة التحليل النفسي:

على خلاف ذلك يسعى أنصار مدرسة التحليل النفسي بقيادة سيغموند فرويد وشاركو وبروير وبرنهايم أن الحياة النفسية أوسع وأشمل من الحياة الشعورية، حيث هناك حالات نفسية لا يتسرب إليها أضواء مصباح الوعي، فالنفس الإنسانية تتداخل فيها مجموعة من المشاعر  المتناقضة تجعل منها تارة نفس طيبة تنقاد إلى طبيعتها الخيرة، وطورا نفس شريرة تحكمها الغرائز.

وقد استدل فرويد على قيمة اللاوعي في الحياة النفسية انطلاقا من أدلة قاطعة تجلت في: 

  • السبب الرئيس في ظهور انتشار الأمراض العصبية يرجع إلى القمع الذي تفرضه الأخلاق والقواعد الاجتماعية ومدى كبحها للغرائز الجنسية بصور شتى ووسائل مختلفة، ضميرية وبدنية.
  • تعتبر الحياة الاجتماعية صراع دائم بين الخير والشر وبين الغريزة والأخلاق في المجتمع مما يفرض ضغوط قاهرة على الفرد تمنعه من إشباع غريزته « وبما أن الغرائز متناقضة بطبيعتها مع النظام الاجتماعي، فسيبقى العنف والقسر هو الأساس الحتمي، لأي مجتمع مهما كانت الظروف ».[2]  
  • كما استطاع الطبيب النفسي فرويد تطبيق النتائج التي توصل إليها من تحليل سلوك أفراد من المرضى، معتمدا على مراعاة الفروق الفردية والاجتماعية.  
  • برز جليا منهج التحليل النفسي في أوروبا وساهم في اكتشاف الأمراض العصبية وفصلها عن الأمراض النفسية.

لكن فرويد فسر كل ما هو غامض في سلوك الإنسان باللاشعور، مما جعل آلان إيميل يقول ناقدا اللاوعي: « يجب هنا أن نتحاشى أخطاء عديدة ناشئة عن لفظ اللاشعور وأفدح هذه الأخطاء هو الاعتقاد بأن اللاشعور هو أنا آخر، أنا له أحكامه المسبقة وأهواؤه وحيَلُهُ، إنه ضرب من الملاك السيئ، ومرشد شيطاني؛ ولكي نجابهه، يجب أن نفهم أنه ما من فكرة لدينا إلا وهي ناجمة عن الأنا بوصفه الذات الوحيدة ».[3]

وعليه فإن التحليل النفسي كشف عن نجاعته وجدواه في علاج بعض الاضطرابات العصبية، وفرق بينها وبين الأمراض النفسية التي كانت الدراسات السابقة تخلط بينهما في العلاج كما كشف عن مدى تأثير تجارب الطفولة المبكرة في سلوكات الراشدين يقول فريد يريك نتشه: « إن الجزء الأكبر من نشاطنا الفكري يحصل بطريقة لا شعورية ».  

لقد أصبحت الدراسات والنتائج التي استخلصها التحليل النفسي لقضايا اللاوعي تنير الكثير من الجوانب في الدراسات اللاحقة عند علماء النفس والفلاسفة ، وقد عزز منهج التحليل النفسي بقيادة فرويد دراسة بول ريكور  تحت عنوان ( عن التأويل. دراسة حول فرويد ) سنة 1965. هذا التأثير لفرويد على ريكور نستشفه من خلال قول بول ريكور: « عدم الوعي قد كان هو نفسه، بما أنه موضوع للبحث وللمعاينة، نقطة التقاء « للقوة » و « للمعنى » ، و « للغريزة الجنسية » و « للتمثيل ». ولقد بدا لي أن أضع، تحت هذا العنوان، فشل فلسفات الوعي الناتجة عن ديكارت والتي لا تزال ظاهراتية هوسرل تنتمي إليه ».[4]   

قائمة المراجع:

  1. سيجموند فرويد: خمس محاضرات في التحليل النفسي ، ترجمة: نفين زيور، جهاد مصاورة، مكتبة الأنجلو مصرية، سنة 2015، مصر .
  2. هنري برغسون: التطور الخلاق، ترجمة: جميل صليبا، سنة 1981 ، بيروت.
  3. آلان إيميل أوغست شارتيه: عناصر فلسفية.
  4. بول ريكور: صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: منذر عياشي، مراجعة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طبعة أولى، سنة 2005 .

باحث من الجزائر.


[1]  هنري برغسون: التطور الخلاق، ترجمة: جميل صليبا، ص: 253.

[2]  سيغموند فرويد: خمس محاضرات في التحليل النفسي، ص: 06 .

[3]  آلان إيميل أوغست شارتيه: عناصر فلسفية، ص: 147 .

[4]  بول ريكور: صراع التأويلات، ص: 16 .

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com