القيم الخلقية بين المنافع ومبادئ العقل

27 ديسمبر 2022
القيم الخلقية بين المنافع ومبادئ العقل

رحموني عبدالكريم

باحث من الجزائر

            قد لا تخلو حياة الإنسان المعاصر من جهد ونشاط، فعل وممارسة لكن نشاط لا غاية له وممارسة لا أهداف لها إلا إذا اقترنت بالأخلاق مادامت وصفاً حياً شاملاً للخبرة البشرية. هذه المشكلة الخلقية تظل إحدى المشكلات الفلسفية الهامة التي تؤرق بال الفيلسوف وكل مفكر ومصلح يسعى للتغيير وبناء قيم الناشئة، حيث ساد الاعتقاد عند بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمفكرين أن المنافع والمصالح نحدد بها القيم الخلقية والمجتمع معياراً تبنى عليها الأخلاق. إلا أن بعض الفلاسفة يعتقدون  ويقرون باستحالة إقامة القيمة الخلقية على المنفعة والمجتمع بل مردها للواجب النابع من داخلنا.فهل معيار القيمة الخلقية العقل أم المنفعة؟ 

في حين يجب أن يوجه الانتباه باتجاه هذا السؤال: هل العقل أساس الأخلاق؟

العقل مصدر الأخلاق:

يعتقد فلاسفة الاتجاه العقلاني وعلى رأسهم الحكيم اليوناني سقراط والفيلسوف المثالي الألماني إيمانويل كانط أن العقل أساس القيمة الخلقية، وفي وسعنا أن نقول إن رجل الأخلاق هو ذلك الإنسان الواعي الذي يتمتع بقوة نفّاذة تعينه على تذوق القيم ولا يتأتى ذلك إلا بالعقل. يقول الحكيم اليوناني سقراط: العقل مصدر الفضيلة والخير الأسمى ولقد وجد الفيلسوف كانط ضالته في هذا الموقف الذي بعثه من جديد وبقوة، بحكم العقل مصدر القيم الأخلاقية، وهناك مبدأ واحد يعتبره الناس خيراً وهو الإرادة الخيرة والنية الطيبة وهي وحدها خيراً مطلقاً، وهي لا تقاس بنتائجها وإنما بمبدئها الذاتي. « بل لأن الأخلاق نفسها لا تفتأ تتعرض لألوان من الفساد لا حصر لها، ما بقيت مفتقرة إلى ذلك والمعيار الأعلى الذي لا بد منه للحكم عليها حكماً صحيحاً »[1]  ، هذا المعيار الأعلى التي تؤسس عليه الأخلاق هو الواجب الأخلاقي،

مما جعل الفيلسوف الألماني كانط يحصر  القيمة الخلقية في الواجب وهو ضرورة أداء الفعل احتراماً للقانون العقلي، « قانون مقدس ؛ ولا نعتقد أننا نخضع لهذا القانون إلاّ بالعمل لخير العاَلم فينا وفي الآخرين.»[2] نقول يتصف الواجب الأخلاقي عند كانط بالصرامة العقلية ويرفض الاستثناءات في القواعد الخلقية، فهو أمر نابع من الذات العميقة للفرد، والأمر نوعان: 

– الأمر الشرطي: نعني به القيام بالفعل لخير مطلوب أي غاية في ذاته.

– الأمر القطعي: القيام بالفعل لغاية ذاتية بمعنى الحق من أجل الحق، وهو وحده الفعل الأخلاقي مثل التاجر الذي يستقيم مع زبائنه يفعل ذلك طبقاً للواجب.     

يقول الفيلسوف الألماني كانط:» شيئان يملأن الوجدان بإعجاب وإجلال، يتجددان ويزدادان على الدوام كلَّما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي.»[3]

تأسيس القيمة الخلقية على مبدأ اللذة:

    في حين يرى آخرون أن الطبيعة البشرية هي الأساس الذي تبنى عليها الأخلاق. لأن من طبيعة الإنسان أنه يطلب اللذة وينفر من الألم. ومن هذا المنطلق فإن تأسيس الأخلاق يكون على مبدأ اللذة الذي يحقق السعادة أما الخير يكمن في تعدد المنافع  ومن رواد هذا الاتجاه نجد كل من: ارستيب القورنائي، أبيقور اليوناني و جون ستيوارت ملالانجليزي.

يعتقد ارستيب القورنائي أن اللذة هي الخير الأعظم وهي مقياس للقيم جميعا. يقول:« هذا هو صوت الطبيعة فلا خجل ولا حياء وما القيود والحدود إلا من وضع العرف ». في حين  الفيلسوف اليوناني أبيقور فقد عدل من مذهب ارستيب لأنه لا يميز بين اللذات، لهذا يرى أن هناك لذات أفضل من لذات كما يجب علينا أن نقبل الآلام إذا كانت تجلب لنا لذات وان نبتعد عن اللذات التي تولد الآلام.

جعل الأخلاق تقوم على مبدأ اللذة يفقدها خصائصها الروحية وربطها بالنوازع المادية المتغيرة القائمة على الأنانية تجريدها من مضمونها ،أما فيما يخص المنفعة، هذا يجعل الأخلاق متعارضة لأن المصالح ومنافع الناس متضاربة مختلفة فما هو نافع لي فهو عند غيري ضار، وما هو ضار عند غيري نافع بالنسبة لي.

من نافلة القول المنفعة تلغي كل مشروعية وإلزامية للأخلاق التي حصرها إيمانويل كانت الفيلسوف الألماني في الواجب الذي هو إلزام ونية، معبراً عن ذلك في قوله: « النية (…) هو أن يفعل ذلك بدافع من الواجب وليس بدافع من ميل طبيعي(…) وتكون حالته الأخلاقية هي الفضيلة ». [4]

فلا مناص من هذه القاعدة الذهبية المتجلية في القانون العقلي الذي تؤسس عليه الأخلاق في عصر الآلة والإنتاج والصناعة، عصر علم الأجنة و الاستنساخ و الإخصاب الاصطناعي، عصر الهندسة الوراثية، والواقع الافتراضي والتصرف في المعلومات والحرب المعلوماتية دون مراعاة للقيم.

قائمة المصادر:

  1. إيمانويل كانت: ميتافيزيقا تأسيس الأخلاق ، ترجمة: عبد الغفار مكاوي، مراجعة عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، طبعة أولى، سنة 1965.
  2. إيمانويل كانت: نقد العقل المحض ، ترجمة: موسى وهبة، ، مركز الانتماء القومي، لبنان.
  3. إيمانويل كانت: نقد العقل العملي، ترجمة: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة.

باحث من الجزائر.    


[1]  إيمانويل كانت: ميتافيزيقا تأسيس الأخلاق، ص: 23 .

[2]  إيمانويل كانت: نقد العقل المحض، ص: 387 .

[3]  إيمانويل كانت: نقد العقل العملي، ص: 271 .

[4]  إيمانويل كانت: نقد العقل العملي، ص: 23.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com