التعصب التقليدي هو ميل الإنسان إلى التمسك بالمعتقدات والقيم والأعراف التي نشأ عليها في طفولته، والتي تسمى بالإنكليزية culture، وأفضل ترجمة لها هي “التراثية”.
د. علي الوردي
الوعي للقيمة التاريخية للتراث المعماري لابناء بلاد الرافدين
د. توفيق رفيق آلتونجي
العمارة وجميع الابنية القديمة والاثار مصدر من مصادر الارث الثقافي التاريخي للشعوب. المحافظة عليها مسؤولية حضارية تقع على عاتق الحكومات والهيئات الدولية وكذلك على المواطنين. لانها تعتبر جزء من تكوين هويتهم الوطنية.
المباني و القصور والمعابد مهمة جدا للتراث الانساني كذلك. فهي تحمل هوية حضارية لتلك الشعوب الذين قاموا ببنائها. تعتبر كذلك تلك الاثار المعمارية مصدرا اساسيا للمعومات ودراستها تعطينا المعارف حول اسلوب حياة الاولين من ناحية ومن ناحية اخرى
تستخدم تلك المعلومات في الدراسة الاكاديمية. يمكن معرفة طرق البناء واساليبها والمواد المستخدمة وحتى الالات المستخدمة في البناء وطبعا هيئة وشكل البناء الخارجي اي الواجهة والعمارة الداخلية كذلك. الشعوب المتحضرة تعي اهمية التراث لشعوبهم وخاصة الاثار القديمة. نجد في العديد من دول العالم ان الاحياء القديمة والتراثية في المدن محافظة على طابعها الاصلي رغم الحروب والنزاعات و لحد يومنا. كان الحربين العالمين ذو اثار مدمرة لمعظم المدن الاوربية. خذ مدننا ك برلين و درسدن ولندن تحولت الى انقاظ. اعيد بناء جميع البنايات على نفس الطراز القديم وذلك لوجود الخرائط و الوثائق. الجدير بالذكر كذلك ان البناء الجديد اصبح نسخة طبق الاصل من القديم ودون اي تغير. ليس كما يحدث عندنا في العراق حين يهدمون الدور التراثية و يستخدمون العقارات لبناء العمارات الخالية تماما من اي رمز و روح انساني. كذلك نرى ان اعادة بناء او اجراء تصليحات على الابنية القديمة تتم باجراء تغيرات جذرية في العمارة نفسها. كما نراه في العاصمة بغداد في جامع الخلفاء في شارع الجهورية و جامع مرجان في شارع الرشيد كما اننا قمنا بهدم سور بغداد ومعظم ابوابها. واماكن اخرى كثيرة. جدير بالذكر
بان هناك جهود طيبة من امانة العاصمة في اعادة الحياة الى شارع الرشيد التراثي وحبذا جعلها شارعا خاليا من السيارات بستثنى طبعا مخارج جسر الشهداء وجسر الاحرار.
تعتبر العديد من المواقع الاثرية في العالم محمية و ملكا للانسانية كما اسلفت وتصدر اليونسكو قرارات ياعتبار بعض المدن والمواقع الاثرية والامكان النادرة البيئية و التراثية التاريخية ملكا لجميع الشعوب ولذا ويجب حمايتها. لا يجوز اجراء اي تغير على طابعها من ناحية الشكل والمضمون والبيئة كما انها تحمي تراث وثقافة بعض الشعوب كي لا تنقرض. نرى مثلا الحفاظ على بيوت العلماء والفنانين والادباء كما نرى قصور الملوك و الاباطرة وجميع مقتنياتها معروضة لمشاهدة الزوار والسياح وللدراسة. نرى كذلك دور العبادة والاماكن المقدسة وما فيها من اثار من ايقونات وتماثيل و زخارف محمية كذلك.
كنا في زيارة الى قرطبة لزيارة الجامع الاموي ( لا يسمح بالصلاة في الوقت الحاضر في هذا الجامع) الذي يعتبر احد اكبر جوامع اوربا التاريخية استمر بنائها
مئات السنين حيث اضاف كل خليفة على ما بناه سلفه جزأ الى البناء الاصلي الذي ارسى اسس بناه الخليفة عبد الرحمن الداخل المسمى ( صقر القريش) على انقاض معبد روماني ويمكن رؤية بقايا هذا المعبد في مدخل الجامع. واندهشت حين شاهدت جميع تلك الزخارف والفسيفساء والايات القرانية منقوشة ومخطوطة على الجدران والتي لم تمسها ايادي الرعاع حتى بعد دهر من الزمان. رغم انهم بنوا بعد سقوط الاندلس عام 1492 ميلادي، كاتدرائية كبيرة لا تزال تجرى فيها مراسيم الصلاة وسط الجامع الكبير. لا يزال المحراب الذي كان يأم فيها الخليفة الناس في الصلاة لا تزال في محلها بنقوشها البدبعة الذهبية.
اما في الحي اليهودي المجاور للجامع فوجدت كنيسا يهوديا قديما اكتشف بعد ان كان دارا سكنيا لعقود. هذا البيت العادي حين قام صاحب البيت بترميم الجدران اكتشف ان هناك حائط اخر خلف ذلك الحائط وعليها كتابات توراتية. اليوم اصبح هذا الكنيس والجامع القريب المسمى بجامع ابن رشد مزارا للسياح. الابقاء على الاثار والمحافظة عليها وتجديدها وترميمها يعتبر عملا حضاريا للشعوب. تلك الاثار تحمل بين طياتها حياة اناس عاشوا في تلك الديار جيلا بعد جيل ملوكا كانوا او فلاحين، اغنياء او فقراء.
لا ريب ان اسلوب البناء و المواد المستخدمة في البناء والعمارة والزخارف والاشكال الهندسية ، كلها ذو اهمية تاريخية لدراسة تطور فن العمارة و البناء.
بلاد الرافدين متحف حضاري ومهد الحضارات. هنا تجد اثار تعود الى دهور واقوام وثقافات. ذكرت اسماء مدنها في معضم النصوص المقدسة من تورات وانجيل وحتى في القران الكريم. بابل و اشور و اور ولارسا ومئات المدن المندثرة تحت التراب والمجهولة اليوم والتي ستكتشف يوما في المستقبل. من المؤسف بان الوعي الانسان العراقي لم يصل لحد اليوم لدرجة معرفة مدى اهمية تلك المدن الاثرية. لا ريب ان السياسة القومية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة في العراق منذ عام 1963 أدت الى اندثار العديد من الاثار وتخريب العديد من المعالم الاثرية بدعوى انها قديمة. كما انه تم بناء مباني حديثة في مدينة بابل التاريخية لتمجيد قائد البلاد الذي خط اسمه على طابوق جدران الابنية كمن يساير ما كان يفعله الملوك البابلين. وهي في الغالب مجرد ابنية خيالية وليس لها اي ارتباط مع الماضي. كان الاحرى الحفاظ على الاثار كما هي دون اجراء اي عملية
تجميلية عليها. في حين يتذكر اهل مدينة كركوك مثلا لوحة من المرمر كانت تعلو حديقة المجيدية وسط المدينة كتبت بالعثمانية القدينة ( مجيديه باغجاسى) ازيلت من الوجود كما يتذكر البغداديون لوحة كتبت بالخط الفارسي عليها اسم الشارع على بوابة جامع سيد سلطان علي في شارع الرشيد حيث ازليت واختفت كذلك.
السائح القادم الى مدينة بابل او اشور في نينوى
وحتى الى أور لا يريد رؤية بناء حديث بل يريد ان يرى الماضي بشكله القديم دون اي رتوش.
اعتقد جازما ان المصريين تمكنوا من الحفاظ على اثارهم بوعي من دون اجراء اي تغير على الاثار الفرعونية و البنايات التراثية وكذلك القصور القديمة الملوك والاعيان مما ادى الى اندفاع السياح من جميع ارجاء الدنيا لرؤية تلك المدن والاهرامات و المقابر. والكتابات البديعة فيها والرسوم والكتابات الجدارية.
بلاد الرافدين وكما اسلفت متحف تاريخي من شماله الى جنوبه. يجب ملاحظة المحميات البيئية كالاهوار والغابات في الاقليم . وهي الاماكن البيئية الطبيعية التي يجب المحافظة عليها للاجيال القادمة. تلك المناطق كانت هدفا للحكومة البعثية البائدة في تجفيف الاهوار واسقاط مئات الاطنان من القنابل على غابات وجبال كوردستان. هنا نجد اوائل المدن المعمورة والتي بناها ابناء الحضارات القديمة. حتى الشعوب الغازية تركت اثارا هنا. اما اوائل المدن الاسلامية فنجدها هنا كذلك ،كالبصرة التي كانت مجرد حامية عسكرية بنيت للجيش الاسلامي عند فتحهم للعراق بالقرب من ميناء ابلله تحولت البصرة لاحقا الى لؤلؤة الخليج ودانة العراق.
هنا في بلاد الرافدين نجد قبور الصالحين الائمة الكرام في المدن المقدسة في سامراء، بغداد، النجف الاشرف ، كربلاء و الكوفة. هنا مقام الصحابة الكرام وقبور القدسين والاحبار. نجد تلك المزارلت في معظم المدن العراقية. هنا تجد اماكن مقدسة لطوائف وعقائد دينية قديمة كالكائيين و الايزيديين والقزلباشيين واهل الحق والنقشبدنيين والكسنزانيين واخرين. وطبعا نجد الكنائس و الاديرة والمعابد القديمة.
لكني اكرر دوما في كتاباتي باننا في الشرق بصورة
عامة وفي العراق خاصه لا زلنا لسنا واعين تماما الى أهمية تلك الاماكن الاثرية التي نمتلكها. بلاد الرافدين ينتظرها مستقبل باهر من ناحية السياحة الدينية. لانه وببساطة فيها اثار ثمينة لجميع العقائد و الاديان. هنا ولد ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام . كما فيها اثار مهد الحضارات ومدنها وكتابتها الاولى. كل الشعوب اللذين مروا من ربوعها تركوا اثرا. لكن المؤسف اليوم لا نجد من بغداد القديمة الكثير بل اثار هنا و هناك. هدم سورها وبواباتها هدم قصورها ومعابدها.
هنا اكتشف اسوار المدينة.
كنت في زيارة للعاصمة الاسبانية مدريد. وهي من
المدن القديمة ارسى اسسها المسلمون ابان حكمهم للجزيرة الأيبرية والتي دامت قرابة الدهر. الجميل حين اكتشفوا في احدى الحفريات جزء من سور المدينة. توقفت الحفريات وابقوا على تلك الخرائب وسوروا المكان القريب من قصر Castroserna. المدينة بنيت في العهد الاسلامي. بناها الامير محمد. كتب لوحات وبلغات مختلفة توضح تاريخ السور واهميتة ونقرء على لوحة التعريف ما يلي:
“بمناسبة هدم قصري ” مالبيكا ” و ” كاستروسيرنا ” ظهر بطريقة مفاجئة جزء من السور الإسلامي الذي كان يعد جداراً لحدود حديقة تلك البنايات . وقد قدر الباحث المستشرق ” خايمي أوليفير أسين ” مع المهندس المعماري ” لورينثو طريس بالباس ” و ” فرناندو شويكا أهمية هذا الاكتشاف حق قدره . وهكذا ظهر للمشاهدين أهم قطعة من الأسوار الإسلامية. السور الإسلامي يعد أقدم أثر إسلامي تحتفظ به مدينة مدريد . وبناء على ذلك تعتبر بقايا السور نصباً تذكارياً وطنياً يتمتع بأعلى سبل الحمايات القانونية في مجال التراث ، كما صنف ضمن الممتلكات ذات الأهمية الثقافية. ”
أتذكر كذلك قبل سنوات حين كنت ضمن هيئة الثقافة المنتخب في مدينة يونشوبنك السويدية. اثناء بناء بعض البنايات السكنية في مركز المدينة اكتشف اثناء الحفريات اجزاء من سور قصر المدينة فتوقفت الحفريات لحين ايجاد طريقة للحفاظ على هذا الموروث المعماري. وتم ذلك بالحفاظ على اجزاء من السور في قبو البنابة حيث يمكن مشاهدتها من الخارج.
اما في مدينة كركوك فقد تم اغتيال ذاكرة المدينة وابنائها حين تم هدم محلة القلعة بالكامل مع الاحتفاظ ببعض البنايات الرمزية فيها. هذا الحي الذي بني ومنذ دهور على تلة كانت تعتبر اقدم المدن المسكونة في العالم. كانت شبيها بحي القلعة في اربيل عاصمة الاقليم والتي احتفظ بها. بالكامل وتعتبر اليوم تاجا على قمة احدى تلال المدينة العامرة.
هذا الحي في قلعة كركوك كان عامرا بالبنايات والمرافق والحمامات ودور العبادة وبيوتها متلاصقة في ازقة ضيقة. الحياة الاجتماعية فيها كانت زاخرة باواصر القرابة نتيجة الحوار الحضاري بين الامم والعقائد التي سكنت هذا الحي. حيث كان بالامكان العبور من سطح بيت الى البيت المجاور. اما ازقتها فقد كانت ضيقة. لا بد الاشارة الى بعض البيوتات كانت ذو اهمية تاريخية و تراثية من حيث البناء والزخارف الجميلة تلك كان قصور علية القوم يوما ما.
اما معابدها فهي الاقدم في المنطقة وفيها كنيسة بنيت على بقايا معبد يهودي يرقد فيها ثلاث من انبياء اليهود ،( النبي دانيل، حنبن وعزير). للتاريخ اتذكر ما روت لي جدتي وكانت عائلتها قد سكنت الحي منذ عهود طويلة ان اليهود من سكنة الحي حين هاجروا الى اسرائيل باعوا حاجياتهم. وفي حوار مع جارتها راحيل قالت لها نحن نجد من يشتري حاجياتنا فهل ياترى ستجدون انتم احدا يشتري حاجياتكم. صدقت السيدة الجليلة راحيل.
كان هناك بيوت بعض الادباء امثال الشاعر فضولي البغدادي ورجال الدين الافاضل ومن جميع العقائد الدينية من يهود ومسيحيين واسلام. لكن الحقد القومي الاعمى السلبي منه الذي اتخذ من المدينة ضحية لافكارها في تعريب المدينة، هدفا. قام بهدم الحي باكمله بدلا من ترميمها والاحتفاظ بالحي كمعلم سياحي و ثقافي. الجدير بالذكر باني كتبت انذاك حول الموضوع واعتبرت تلك العملية جريمة ضد الانسانية. الجدير بالذكر كذلك ان بعض الحفريات في القلعة اكتشف فيها اثار تعود الى حقبة الحضارات العراقية الاولى. اما ابناء الحي فقد تم تعويضهم ماليا و بسخاع لكن ذاكرتهم اغتيل من ناحية ومن ناحية اخرى منعوا هؤلاء لاحقا من شراء عقارات في المدينة ما لم يغيروا انتمائهم القومي وتسجيل انفسهم كعرب. اعتبر المكان من الناحية الامنية هشة وتم أغتيال الحي باكملة. كما أجري تغيرات جذرية على اسوراها وتم هدم القديم وبناء اسوار حديثة وتغير معالمها الاصلية تماما. الاسوار الجديدة شبيهة بتلك الاسوار في البناء الاسلامي. كالتي نراها شاخصة في بادية كربلاء على الطريق الرئيسي بين المدينة المقدسة و مدينة النجف الاشرف والمسماة (حصن الأخيضر ) وهناك تشابه
معماري في السور الجديد مستوحات من بناء سور الجامع العباسي، الجامع الكبير ، الملوية في سامراء .
في حين نرى ان هناك احياء من العصور الوسطى في المدن الاوربية لا تزال عامرة ويأمها ملاين من السواح سنويا.
حافظوا على تراث ابناء بلاد الرافدين فهي امانة في اعناقنا. انها ثروة وطنية ومصدرا للرزق لا ينضب عطائه الى يوم الدين.
الأندلس
٢٠٢٣
عذراً التعليقات مغلقة