كتاب “العشق الإلهي بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه” لحبيب فزيوي والعلاقة بين الزمن الموضوعي والزمن الإلهي والزمن الصوفي
بقلم -محمد بصري
الجزائر
هو كتاب يحاول مطاردة نصوص شقية ميتافيزيقية ويترصد شعرا اشراقيا مغيبا متمددا متكاملا سياقيا .نص شعري واحد لابن الفارض الشاعر الزاهد المتصوف يكتنز تصورات مستقلة وقلقة معرفيا .وهو نص بكل ما يعنيه الخطاب النصاني.
يعود قلم الكاتب ابن الجنوب الجزائري الحبيب فزيوي بمنتج ثقافي جديد لينثر حبرا أكاديا وغنوصيا مسافرا عبر جغرافيا الزمن السائل ليعانق حدائق الصوفية والمتصوفة والعارفين .العرفان هو حالة من التمدد الثاوي في الطبيعة حيث الإصغاء للطائف الالهية. مطارحات العرفان حسية فيزيقية كما هي روحية طرقت بوابات الزمن الإشراقي الذي يقيس الفراغ ويقارب الطاقة ويخترق المكان. ربما النظرية النسبية لم تستطع في وقتها تفسير العلاقة بين الزمان والمكان، أيهما ثابت وأيهما متغير واعتبرتهما كتل كمية متصلة غير منتهية .وجعلت الأمر تناوبيا بينهما وجدليا .ففلسفة خلق العالم تتجاوز التنظير الأرضي والعلمي لأن الله قطع على المتحاذقين والعلميين الطريق عندما جعل مسألة الروح والخلق أمرا إلهيا صرفا قوله تعالى” وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً” صدق الله العظيم فليست مسألة علم وقوانين فيزيقية بالقدر ما هي أمر رباني إلهي . التصور الصوفي للقضية قديم في أدبيات المتصوفة.ابن عربي الكبريت الأحمر والعبقري العربي وضع معادلة صوفية قوامها “الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمد” الزمان والمكان الذي عجز كانط عمانويل على إيجاد تسويغ عقلي لهما وقال “المكان والزمان ليس لهما ادراك مباشر خارجي فهما سابقان عن الحساسية البشرية” ليُحكِم عليهما الإغلاق داخل الدائرة الميتافيزيقية.كتاب لحبيب فزيوي الناقد والروائي القندوسي الجزائري يحرك هذه الأطروحة وينظر إليها من زاوية عرفانية جديدة وتفكيك أدبي منثور بالشعر .لأن المسكوت عنه في نصوص الصوفية بكل طوائفهم وزخمهم النوراني وطرائقهم رغم نعتها بالدوغما أنهم اقتحموا العلم بتفسيرات يقينية لمشكلات المادة والكون والتشكل الطبيعي.الزمان بالنسبة للعلامة ابن عربي ممتد كالمكان فكل أيامنا تجري في السبت كما يشير د.محمد علي يوسف في مقال حول النظرية النسبية عند الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي .هذا اليوم الميتافيزيقي أي “السبت” “اليوم الفرد” له أفق لاهوتي وثيولوجي خطير فهو عند العبرانيين “شبات” وانتقل في رحلة تجوال المفاهيم الى العرب في الجاهلية باسم “شبار” أي البرهة والسكون وأحيانا الانقطاع.هناك غموض لاهوتي يلف هذا “اليوم الفرد “الذي يحتوي الزمن والذي لا معنى للأيام أمامه فهو يبتلعها ويمتصها كالُثقب الأسود . هذا اليوم هو فضاء مكاني لزمن سائل فيه فهو يحتوي كل مقاييس وأنظمة الزمن كانت أياما أو شهورا أو ساعات أو دقائق .إنه المكان الذي تم تجميد الزمن فيه. هذه التوليفة العجيبة لزمان ومكان متحدين جعلت غالبية الفلاسفة في حيرة من أمرهم .فالتعامد الأفقي والعمودي بين المفهومين فك شفرته بيت واحد لابن الفارض. :
شربنا على ذكر الحبيب مدامة * سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
الكتابة كانت هذه المرة من هذا البيت الشعري الذي تم اختياره بعناية أدبية من بين 41 بيتا فهو كتلة من المعاني الخام التي مافتئت تضخ الدلالات بل تروي الأدب العارف بسيل من المعاني اللامنتهية واللامتناهية في أطيافها النورانية.العلاقة بين النص وبين الفيض الصوفي الذي مثله نص البيت الخام لابن الفارض.توَسَّمه الكاتب لحبيب الذي يُطوِّع النموذج الشعري اللغوي ليشتبك مع الاشراق و الإشراقي .لم تعد اللغة لعبة بنيوية تفتش عن دلالاتها في فضاء من المباني والألفاظ والشبكات المفاهيمية، بل فكر هي من تصنعه فقد اتهمها رائد البنيوية رولان بارث “اللغة ليست ليبرالية ولا ديمقراطية إنها بكل بساطة فاشية” . سطوة و دكتاتورية اللغة تتهشم تحت معاول النص المغيب والعارف والنوراني. تتلاشى الدلالات المشيئة لتغدو أمواجا من الحدوس الربانية.
قد يكون الانطلاق من بيت أعزل في قصيدة طويلة عميقة صادما للغويين وحتى السيمائيين من جمهور البنيويين الذين ألفوا التعاطي مع النصوص من الداخل هذا البيت الذي يعاني يُتْما ميتافيزيقا خارج قصيدته الأم المترامية الأطراف ، بل هو جوهرها ومركزها الثيولوجي.إذ يفصح عن خبرة ماورائية ومكنون جوهري لفكرة الخلق .
لا ينجو هذه المرة الغذامي عبد الله المفكر السعودي من القراءة النقدية التي تقتحم الأسيقة البنيوية التي طالما شارف بها النصوص الأدبية.ما فعلته البنيوية التي لا يميز المؤخون لها. هل هي فكر فلسفي ما بعد حداثي أم انها ثورة منهجية في الثقافة الفلسفية أم هي ثقافة حداثية جاءت للاعتراض على الأفكار النتشوية (نسبة إلى نيتشه) هي نقلها النموذج الثقافي وإغراقه داخل اللغة . الاتجاهات المعاصرة لبنيات اللغة الشعرية نصبت فخاخا للأكاديميين الذي حولوا الثقافة الشعرية الرمزية إلى أفكار مغلقة مُسيجَة بشكلانية تخضع لقوانين ومراتب وشبكات سانكرونية ودياكرونية. نقل اللغة من الاشتغال اليومي من براءتها الراهنة إلى داخل الأسوار أضر بالذائقة اللغوية للشعر.كما يقول لاكان “أننا كلنا غارقون في اللغة اليومية ولا يمكننا الخروج عنها” نقلا عن د.فيصل الاحمر باحث جزائري مقال ما بعد البنيوية .
الثورة اللغوية في النص الصوفي الغارق في لذاته الصوفية أن الدلالات لا تنتهي هي تطفو وتسبح كحوريات جميلة لتنتشل العاشق الصوفي الهائم في بحر المحبات الالهية. هذا الادراك الفوق طبيعي هو ما جعل الكاتب فزيوي يستثمر في فواصل ميتافيزيقية متكثرة جدا. ملهمة للأفق الابداعي الذي ينضح به بيت ابن الفارض.النص الشعري صنع وفاقا جليلا بين الذات العارفة وموضوعات الشوق وهو ضرب من الانتشاء الصوفي.هذا البيت النص مساحة زلقة لا تستطيع الأرجل الثبات فوقها.
الخلود بالمفهوم السينوزي (باروخ اسبينوزا فيلسوف هولندي) وجود يدوم في زمن لا ينتهي والأزل هو لحظة تقع خارج الزمن وليس لها بداية أو نهاية كما يقول فريدريد لونوار في المعجزة السبينوزية. هذا المعين الوجودي الشبيه بالوعي الإشراقي الذي لا يخلو من المرجعيات التساؤلية الميتافيزيقية. هذا الحدث للميتافيزيقي الجلل يجعل الصوفي يعيش بعقله النوراني داخل تصورات هي بمثابة التجلي العظيم للأعيان الثابتة. يكون اين الفارض حسب الحبيب فزيوي قد اقتحم هذه الإشكالية الكونية التي أرقت الفكر الفلسفي والطبيعي.يجب وفق تصوره أن يتجاوز الحب الالهي والعشق الرباني فكرة الخلود ليصير أزليا خارج مقولتي الزمان والمكان.لأن الله جل جلاله الذي صوّر ودرأ وبرأ هو ذات خارجة عن الزمن والمكان لذا يجب أن يتحد هذا الحب معها اتحاد فناء . تتماهى التجربة الأزلية التي عبر عنها اسبينوزا باروخ في كتابه “الإتيقا “مع أفكار الصوفية والتي تدعو المحب العاشق في مملكة الإله أن يلقي بمشاعره وروحه في بحر الأزل الذي لا شواطئ له ليغترف تلك اللحظات اللاهوتية مجردا من ناسوته.ستعيش الروح حينها إدراكا آخرا لا زمنيا و لا مكانيا ستبحر في عوالم خارج دائرة الأسئلة الميتافيزيقية.لأنها ستعيش أزلية جديدة مع الله.
تحويل الأشعار إلى نصوص مغلقة لها شبكاتها الخاصة أضر بالشعر.كما يقول الكاتب بل نسفها تحت معول الدراسات النقدية الحديثة التي أجهزت على القصيدة التقليدية والشعر الفصيح الذي هو علامة عربية كلاسيكية صافية وعتيقة .
الكتاب يشير إلى مسألة ذات أهمية في علوم الثيولوجيا ويشير بتفكيك دقيق إلى الأخطاء المفاهيمية واللغوية الشائعة وهوذلك الخلط بين الزمن الغيبي والزمن الموضوعي البشري. لا يوجد ما يسمى زمن غيبي.لأن الغيب يتوقف عنده الزمن نهائيا يصبح هناك اللازمان.و اللامكان. هناك تصورات لا تصلح أن تكون طعاما ميتافيزيقيا تقتات عليه عقولنا المبرمجة زمنيا. هناك الأزل . وهذا المفهوم فارق ومفارقة إنه أي الأزل خارج الزمن فهو غير محدد بسقف زمني كما يقول اسبينوزا.كما هناك فرق كذلك بين الأزل والخلود .الخلود يجري في زمن لا بداية له ولانهاية.الله وحده الأزلي فهو خارج الزمن وخالقه.والروح أزلية فهي من أمر ربي وليست من علمه فقط .ولو كانت الروح علما لاستطاع المتحذلقون والبيولوجيون والروحانيون بلوغها لكنها أمر رباني لا قدرة للعقل البشري الوصول إليها ولو وصل حدود الفناء المعرفي.لذا كان ابن عربي الداهية يكرر في فتوحاته” الزمن مكان سائل والزمان مكان صلب”
محمد بصري كاتب من الجزائر
عذراً التعليقات مغلقة