أحمد الشيخاوي
شاعر وناقد من المغرب
إنه وبشكل عام، في مجال الكتابة إمّا أن يطغى الاستسهال، فتفسد الذائقة والوعي على حدّ سواء، أو تكون السطوة للاتّزان والروية، بل والتردد قبل ولادة أي من النصوص، وهنا يكُ السبق لجملة من المخاضات أو المحطات القبلية، المُتيحة لكافة أضرب المحو والتنقيحات، كي يولد النص شبه مكتمل وأقرب ما يكون إلى مستويات الكمال، وأحرص على التّخفف، قدر المستطاع، من فخاخ الانتقاص.
في مجموعته الباكورة” رعشة الولادة”، الصادرة عام 2019 عن دار حنظلة للنشر، يغرينا الشاعر المغربي احمد شيكر، بمثل هذه المجابهة الحاملة لمنظومة مفاهيمية تمس الحياة في صلبها، ومن ثم تدعو إلى الانغماس في كافة حيثياتها وتفاصيلها، والتلون بمعانيها الراعية للبعد الإنساني في الكتابة، على نحو موسوعي وشامل.
في اعتقادي، استهلال المجموعة بلائحة عناوين النصوص، إنّما يدل على غرض واحد أوحد منصهر في الغاية الأم من المنجز ككل، وكأنما في ذلك دعوة إلى الوقوف عند خطورة العتبات وغائيتها في الشعر والأدب عموما، فالمنازل من أبوابها تُعرف، يقودنا هذا إلى تناول العمل من عدة زوايا نتناولها كالآتي:
جمالية العتبات
إن عبارة ” رعشة لولادة” كعنونة اسمية وإن ضاقت، أو بمعنى أدق، اختزلت، شكلا، بهدف تحريض ذهن المتلقي على سرعة الاستيعاب، إلاّ أنها ضمنيا ومن حيث تركيبية دوالها وتواتر إيحاءاتها، تشكل المفتاح السحري، إذا شئنا، لحياة موازية تلوذ بها الذات، تفاديا للاصطدام بإسمنتية الواقع وتخشّبه وإكراهاته، مثلما أنها كمفتاح لإقحام رمزية كبيرة، ومدغدغة بإملاءات تقديس الحياة، تماما، كما يترجمها النص في ولادة إنسانية ووجودية، بعد اختمار ورصانة ورعشة صارخة بآفاق الاستشراف، كون هذا الأخير مبطل لكافة أوجه الارتجال والتهور والتأتآت النصانية التي قد يعقبها الفشل والانكسار التجريبي.
بفنية ينثر الشاعر عناوين المجموعة، ويمدّ المسافات الجمالية الضامنة لالتقاط التيمات المولَّدَة عنها، من لدن القارئ الذوّاق الواعي بالطبع، على شاكلة تستحضر القواسم المشتركة ما بين الذات الشاعرة ومتلقيها، أي وفق عملية تواصلية ناضجة، مستفزة للمشترك السابح في أفلاك الإنساني، والمتماهي مع عوالم اللذة التي قد تقترف إثر نظير هذا التماس.
فعلى منصة احمد شيكر المسكونة بهذيانية الذات، والزاهدة في اللغة الثرثارة، تتشاكل صور الغرائبي، وتبلغ ذروتها الحلمية الواقعية، وتصحو ذاكرة الشعر العربي، إلخ…
إن الكتابة الحارة والصادقة، تظل منوطة بالتجارب القوية في الإمساك بخيوط إبداع يعرّي مركزية الذات، بدل الطفو على الهوامش، ومثل هذا التمذهب الاستعاري، او التوجه البلاغي في كتابة النزيف ونزيف الكتابة، لا يحصل إلاّ إذا حوصر الفعل الإبداعي بثقافة الخصوصية المندغمة، أو بالأحرى الذائبة في ملكوت المشترك الإنساني المفتوح على متوالية من المكونات الرافضة للخطاب الطبقي والألسني والعقدي.
إنها كتابة الهامش من مركز الذات المقدّسة للحياة، رغم واقع العذابات والمُكابدات والهزائم والانشطار والانكسارات: تكتبني الحكاية/ بالماء والصلصال/ سلطانا/ تتغنى به القوافي/سقط سهوا من جراب التاريخ/ لم يضع تاجا/ لم يغز بلادا. ص(13).
أو كتابة عكسية، من قلب التاريخ، مستقرّة على تفاصيل الهوية في توازيات عناصر الإنساني وتناغماته.
يفتتح الشاعر بعتبة الحلم. إنه حلم الكتابة أيضا، مثلما تسوقه ذاكرة الماقبلي، أو طور المخاضات، لتتسنى الولادات شبة المكتملة والمستحقة.
الكتابة الحالمة للواقع
ثمة إصرار كبير على أن تنشر السياقات في دورة حلزونية، تبدي الذات الشاعرة أكثر التصاقا بهويتها، وكثيرا ما يتم التبئير على ثيمة ” الحلم” كمرآة لهذه الكتابة التاريخية التي تجترح من تقاطعات الأزمنة ورصدها للتباين الهوياتي ما بين الأجيال، مع تغييب المقارنة، واستحضار المكان بلغة تنعت فوق ما تسمي، فللحلم هنا، تجلياته من خلال هذه الشعرية الموحية بأن معسول القطوف إنما يأتي بعد مراكمة الجهود.
وهي كتابة تاريخية تنأى عن الاسترجاع، وتصحو لها الذاكرة، تبعا لما يفرض لغة الاقتصاد في تمثلات الغياب، أي أنها كتابة الغياب من ذاكرة حية وواعية، من شقوقها المضيئة تتنفس الذات، واقعية كانت أم رمزية، دالة على الحياة الفعلية أو الحياة الموازية التي قد تفجر إيحاءاتها عتبة المجموعة، وتستنشق نسمات الحلم، صمتا وكتابة، بياضا وتجربة: دماء من تلك التي تجري في النهر؟/ دماء هابيل لم تجف/ الأرض لا تشرب دم ابن آدم أبدا/ أيها التاريخ/ أخمد سيوفك/ أحفادي لن يسبحوا في النهر. ص(97).
الغرائبي
هي إشراقات فقط للغرائبي، ضمن حدود هذه التجربة، تضفي المسحة المنشودة والمبتغاة من منجز منذور لكتابة ما بعد عسر المخاضات، أي في ترتيب محكم لأنساق استشراف ما بعد الولادة التي قد تحقق حياة رمزية موازية، تسكن لها الذات الشكاكة القلقة والمضطربة، كما تفتي برؤى التصالحات الضرورية مع الآخر والعالم.
فعتبة عوة الموتى، تقود إلى مفاهيم من العجائبية بمكان، ارتباطا بالحلمية التي تدشن العمل في كليته: للمكان ذاكرتي/ الريح لا تأتي إلا محملة بما لم تزود/ بائعة الخبز والرغيف/ تمد يدها/ تعال أيها الصبي/ ما الذي أتى بك باكرا هذا الصباح/ الريح.. الريح/ وعبق أمي. ص(22).
فالأمومة هي جوهر كتابة الحلم.. الحلم بوصفة سلطة على التاريخ، بل وملحا للذات في انسلاخها عن الراهن الفوضوي المأزوم، من خلال سراديب تلكم العودة التي تعني من بين ما تعنيه، التجدد، وتفادي صور الاجترار والروتين والاستنساخ.
وحسب تأويلات عتبة ” بين الماء والماء”، كذلك، تصهل هذه الغرائبية، منسجمة الإيقاع مع فصول الحلمية التي تم التبئير عليها في المجموعة، وشكلت عصب البوح ونخاع مجمل تمفصلاته.
تصوير فني بديع للذات ما بين حياتين متقاطعتي المعنى، تحيل كلاهما على حساسية المنعطف وخطورته في الانتماء الواعي للذاكرة التي قد يرتب صفحاتها التاريخ حتّى في حقب ظلامتيه، كون دروسه وعبره مفروضة وغير مختارة، ويبقى أن يستفيد منها الإنسان كي لا يتكرر ويستنسخ هويته ويبتذل مصيره، وخيار الاستشراف الذي هو روح الحياة الموازية التي يشاكس بهشاشتها وبراءتها وجمالياتها، الديوان: في منفاي السحيق/ بين الماء والماء/ ارتق بخيط ألوان قزح/ ما تبقى من عمري…/ أبحث عن حروفي الأولى.ص(39).
فالدورة الكاملة، دوما حاضرة، متجلية نوافذ الحلم، صقيلة مراياه.
الحكائية الخفيضة
في أحيان كثيرة تُفهم هذه الثيمة من تدفق النصوص الحاضنة للحلمية، أو كتابة الحلم للواقع المفخخ بالأسئلة المقلقة والهواجس الثقيلة، يعرفها زمن ما قبل الولادة، أو محطة التأمل واستشراف المستقبل الذي تسقي عصارته شرايين الحياة الموازية.
كلون من كتابة برزخية، تذود عن المشترك الإنساني، وتؤجج ثقافة التعدد والتجدد، تحاول عبرها الذات التحرر قيد الإمكان من جبروت الوعي، كي ترسم بالغياب حضورا إنسانيا وهوياتيا ساميا، وبنص اللاوعي، واقع الهشاشة وسمو الرسالة وجمال القيم.
فكتابة الحكاية في مثل هذه الشعرية، تؤسس لقواعد مركزية الذات، مجسّدة نبرة الهدوء، بل ومفتية بضرورة التعايش مع الأصوات الغاضبة، قصد فهمها الفهم الصحيح، ومن ثم ترويضها، عوض إقصائها وتهميشها، انتصارا للمفاهيم التي تغذي الروح التشاركية وتبطل سموم الانانيات والفردانية القاتلة: هذه الأرض/ ليست لي/ هذه الأرض/ ليست لك/ هذه الأرض لنا/ ترتعش فرحا/ حين تطرق مسامعها/ قهقهات الأطفال/ تركض هناك بعيدا خلف الفراشات. ص(72).
كتابة تستوعب الغضب، وتعاود إنتاجه بما يحقق للذات في عالميتها توازنها، ويمنحها الإيجابية، ويطبعها بنزعة التصالح والتعايش والانتماء لشجرة الإنسانية: والخراب/ وهذه الجثة التي يلفظها البحر مع طلوع كل فجر/ والنهار الذي يسيل الدم من أظافره/ والأجساد التي تتوسد أطورة الشوارع/ والأشلاء التي انتزعت وعلقت فوق المدائن/ وحمم الدماء الراقدة على سرير النهر/ وقوارب تبحر دون بوصلة وهدير رصاص يرتفع هنا وهناك. ص(42/43).
الجنائزية كشاهد على هذا الانفصام والروح المغتربة، في سياق الحلم أو البرزخية أو ما يشبه الغياب الذي يكتب التاريخ.
من هنا تلكم البراعة في فهم الواقع، حسب ما يتيح آليات كتابة متجاوِزة، كيف لا وثيمة ” الحلم” بؤرتها حدّ إتاحة قراءة ذاكرة الغياب، للمتلقي بلغة صافية مقتصدة، مماثلة لمرايا حضوره، أي هذا المتلقي المتلهف لخطاب برزخي مفض إلى حياة موازية وإن كانت موهمة للذات فاعلة ومتفاعلة، غاوية بالتعافي وممهورة بالزيف وسلطة الاوهام، ذلك ويمكن القول أن الشاعر المغربي احمد شيكر، من خلال منجزه الباكورة هذا، استطاع أن يبدع في الشعرية التي تحترم ذائقة ووعي جيل تبدل بالمطلق.
(*)مجموعة” رعشة الولادة”، ديوان للشاعر المغربي أحمد شيكر، من إصدارات دار حنظلة للنشر والتوزيع، طبعة 2019، الدار البيضاء.
مقال نقدي خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة