من الحرس القديم للأدب الإسلامي)
“ابن الفارض” سلطـان العاشـقين
بقلم: محمد عبد الشافي القُوصِـي
لا يزال شِعر”ابن الفـارض” موضع الإعجاب والاهتمام عند الكثير من الباحثين عرباً كانوا أوْ عجما، فله شروح ودراسات عديدة. لكن لمْ يتم تحقيق ديوانه إلاَّ مؤخراً على يد المستشرق الإيطالي (جوزيبي سكاتولين Giusepp Scattolin) الذي قدَّم أيضاً فهماً جديداً لشِعره مستخرجاً إياه من دراسة دلالية دقيقة تجنباً خطر إسقاط مفاهيم أجنبية عليه.
في أخريات حياته؛ أقام (ابن الفـارض) بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر، متعبِّداً معتكفاً، ومنعزلاً عن الناس. وفي هذه الفترة أكمل ديوانه تدويناً وإملاءً كما فعل والده من قبل، يقول في قصيدته (زدني بفرط الحب):
زِدْني بفَرْطِ الحُبّ فيـك تَحَيّـرا وإذا سألُـتـكَ أن أراكَ حقيـقـةً يا قلبُ أنتَ وعدَتني فـي حُبّهـمْ صَبراً إنَّ الغرامَ هوَ الحيـاةُ فمُـتْ بِـهِ صَبّاً قُل لِلّذِيـنَ تقدَّمـوا قَبلـي ومَـنْ بَعدي عني خذوا وبيَ اقْتدوا وليَ اسمعوا | وارحمْ حشىً بلَظَى هواكَ تسعّـرا فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لنْ تَرى فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا فحقّـك أن تَمـوتَ وتُعـذرا ومَنْ أضحى لأشجاني يَرَى وتحدّثوا بصَبابتي بَيـنَ الـوَرى! |
ينظر ابنُ الفارض -والعارفونَ عامة- إلى حب الله على أنه أصل وجود الخلق، وواسطة سريان الحياة والحركة في المخلوقات استناداً إلى الحديث القدسي: “كنتُ كنزاً مخفياً، فأحببتُ أنْ أُعرف، فخلقتُ الخلق، فبه عرفوني”.
وتتجلّى مقامات الحب الإلهي الكوني، في قصيدته “الميميـة” وذلك من خلال حديثه الرمزي عن هذا الحب، وكنَّى عنه بالمدامة من حيث هي كناية عن وجود المحبة الإلهية منذ الأزل، ولا تدخل في قيود الزمان والمكان، فيقول في قصيدة (شربنا على ذِكرِ الحبيبِ مُدامةً):
شربنا على ذِكْرِ الحبيبِ مُدامةً يقولونَ لي صفها فأنتَ بوصفها صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطْفٌ ولاهَواً، تقدَّمَ كلَّ الكائناتِ حديثها وقامَتْ بِها الأشْياءُ، ثَمّ، لحِكْمَةٍ وعنديَ منها نشوة قبل نشأتي على نفسهِ فليبكِ منْ ضاعَ عمرهُ | سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلقَ الكَرمُ خَبيرٌ، أجَلْ! عِندي بأوصافِها عِلْمُ ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ قديماً، ولا شَكلٌ هناكَ، ولا رَسْمُ بها احتجبتْ عنْ كلِّ منْ لا لهُ فهمُ معي أبداً تبقى وإنْ بليَ العظم! وليسَ لهُ فيها نصيبٌ ولا سهمُ! |
يقول الناقد الأديب (صابر عبد الدايم): إنَّ الأوصاف السابقة لا تَصدق إلاَّ على (المحبة الإلهية) وإلاَّ فهل للخمر حديث؟ وكيف يتقدَّم حديثها كل الكائنات؟ وكيف حدثتْ له النشوة قبل مولده؟ وكيف تبقى معه بعد فناء جسده وخلود روحه؟!
إنَّ الله جميلٌ، وجماله مطلق، ويستغرق هذا الشعور بالانجذاب إلى جمال الذات الإلهية عند ابن الفارض استغراقاً جعله يشهد محبوبه الحقيقي في كل معنى من معاني الحياة، وفي كل مظهر من مظاهر الكون؛ حتى في نغمة العود، وألحان الناي، وفي مسارح الغزلان، وفي مساقط الغمام، وبين الأزاهر والورود، يقول:
تـراه إنْ غـاب عني كل جارحةٍ فـي نغمة العود والناي الرخيم إذا وفـي مسارح غزلان الخمائل في وفـي مـساقط أنداء الغمام على وفـي مـساحب أذيال النسيم إذا لم أدرِ ما غربة الأوطان وهو معي | فـي كـل معنى لطيف رائق بهج تـآلفا بـين ألـحان مـن الهزج برد الأصائل والأصباح في البلج بـساط نـور من الأزهار منتسج أهـدى إلـيَّ سحيراً أطيب الأرج وخـاطري أيـن كنا غير منزعج! |
عاش “ابن الفـارض” فيما بين (576- 632هـ) كثيراً ما كان يعاوده الشوق إلى الحجاز وأهله، فمن تلك البقاع الطاهرة، ينحدر أصله، فكانت أسرته تفتخر بنسبٍ متصلٍ ببني سعد، قبيلة السيدة “حليمة السعدية” مُرضعة الرسول الأعظم! فكتب قصيدته (أرَجُ النّسيمِ سرَى) :
يا ساكني البَطحاء، هلْ مِن عَودَةٍ وحياتكمْ يا أهلَ مكَّة َ وهيَ لي وعلى مُقامي بالمَقامِ، أقامَ في أسْعِد أُخَيَّ، وغنّني بحَديثِ مَنْ واهاً على ذاكَ الزَّمانِ وما حوى | أحيا بها يا ساكني البطحاءِ؟ قسمٌ لقدْ كلفتْ بكمْ أحشائي جِسمي السّقامُ، ولاتَ حينَ شِفاءِ حلَّ الأباطحَ إنْ رعيتَ إخائي طيبُ المكانِ بغفلة ِ الرُّقباءِ |
بعدما رجع من الحج، لمْ يمكث طويلاً، حتى عاوده الشوق أكثر من ذي قبل، ولا عجب في ذلك، ففي تلك الديار تفجرت قريحته بأعذب القصائد، وأرقّ الأشعار، فكتب قصيدته الشهيرة (هلْ نارُ ليلى بَدت ليلاً؟) التي استهلّها قائلاً:
هلْ نارُ ليلى بَدت ليلاً بِذي سَلَمِ ناشَدْتُكَ اللَّهَ إنْ جُزْتَ العَقيقَ ضُحًى يا لائماً لامني في حبِّهمْ سفهاً وحُرْمَة ِ الوَصْلِ، والوِدِّ العتيقِ عني إليكمْ ظباءَ المنحنى كرماً طوعاً لقاضٍ أتى في حُكمِهِ عَجَباً | أمْ بارقٌ لاحَ في الزَّوراءِ فالعلمِ فاقْرَ السَّلامَ عليهِمْ، غيرَ مُحْتَشِمِ كُفَّ المَلامَ، فلو أحبَبْتَ لمْ تَلُمِ وبالعهدِ الوثيقِ وما قدْ كانَ في القِدَمِ عَهِدْتُ طَرْفيَ لم يَنْظُرْ لِغَيرِهِمِ أفتى بسفكِ دمي في الحلِّ والحرمِ! |
يقول جبران: “إذا نظرنا إلى فن “ابن الفارض” وجدناه كاهناً في هيكل الفكر، أميراً في دولة الخيال، قائداً في جيش المتصوفين”! وهكذا؛ يظل شِعر ابن الفارض موضع الإعجاب والحفاوة عند الأدباء والباحثين عرباً كانوا أوْ عجماً، شرقاً قطنوا أوْ غرباً. ومن أصدق ما قيل عنه تلك الأبيات التي كتبها سبطه (علـيّ) فوق ضريحه:
جُزْ بالقرافةِ تحت ذيْل العارضِ أبرزتَ في نَظْمِ السلوكِ عجائباً وشربتَ من كأس المحبّةِ والوَلا | وقُل: السلامُ عليكَ، يا ابن الفارضِ وكشفتَ عن سِرٍّ مصونٍ غامضِ فرويتَ من بحرٍ محيطٍ فائضِ! |
مَن هو ابن الفـارض؟!
هو أبو حفص شرف الدين “ابن الفارض” أشعر المتصوفة، يُلقَّب بـ”سلطان العاشقين” درس الفقه الشافعي بالأزهر، وأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثمَّ زهد في الحياة وتجرد، وسلك طريق التصوف، فكان يأوي إلى المساجد المهجورة في أطراف المقطم، ويقيم فيها ليالي وأياماً طويلة صائماً ومعتكفاً. عندما زار مكة نظم معظم أشعاره في الحب الإلهي، وعاد إلى مصر بعد خمسة عشر عامًا قضاها في رحاب الحرم الشريف!
وصفه العلماءُ كالذهبي، والزركلي، وابن خِلّكان، وابن حجَر، وابن العماد الحنبلي، وغيرهم بأنه كان جميلاً نبيلاً، عليماً بأسرار اللغة، وعاشقاً للحُسن والجمال المطلق. وقد عكفوا على شرح ديوانه وتأويله، وكشفوا عن الرموز والإشارات التي احتجبتْ وراء العبارات والألفاظ ذات المعاني البعيدة! لاسيما أن أشعار المتصوفة تتكئ على الإشارة والتلميح الذي يعمدون فيه إلى المواربة والإغراب، كما يُعوِّلونَ على أساليب المجاز والاستعارات والكنايات وغير ذلك من ألوان البلاغة التي من شأنها أن تزيد الأمر خفاء، وتُحوِجك إلى إعمال العقل!
لقد التمسَ الأولياءُ والعارفونَ ألفاظهم وعباراتهم في التعبير عن حبّهم الإلهي والنبوي من معجم الشِّعر الغزلي أوْ الخمري، ممّا خلفه الشعراء العذريُّون كقيس وجميل وكُثيِّر، وغيرهم! حيث تكثر عندهم مفردات (الحب، الصبابة، الأسى، الجوى، والحان، ألحان، الطاس، الخمر، المدامة، النشوة)! ومن شعراء المتصوفة من يسرف في اصطناع هذه الألفاظ الغزلية والخمرية مثل: ابن عربي، وابن الفارض، وجلال الدين الرومي!
وقد ظنَّ البلهاء وذوو العاهات العقليّة أنَّ الألفاظ الغزلية تدلّ على معانِ ماديّة بحتة؛ فالحبّ حسي، والخمرة خمرة مادية! ونظراً لضيق أُفقهم وعجزهم عن فهم الرموز وفكّ مغاليقها؛ سارعوا إلى التشنيع على الأولياء والعارفين والغضّ من القيم الروحية التي تنطوي عليها قصائدهم، الأمر الذي اضطرَّ “ابن عربي” أن يضع بنفسه شرحاً لديوانه “ترجمان الأشواق”. وعن سبب اللجوء إلى الألغاز والرموز يقول القشيري في كتابه (الرسالة): “لقد قصد الصوفية أن تكون ألفاظهم مستبهمة على (الأجانب) غيْرةً منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، فهي معانِ أودعها الله في قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم”.
ولهذا؛ قالوا: “لا يغشى مجالسنا من ليس منا”!
يقول العارفون: إنَّ (الحبّ الإلهي) عند المتصوفة، معناه الحب الخالص لله، وهو المحور الرئيس الذي تدور عليه رياضة النفس ومجاهدتها، وهذا ما أشار إليه “ابن الفارض” في قصائد كثيرة مثل “التائية الكبرى” كقوله:
وعن مذهبي في الحبِّ ما ليَ مذهبٌ وكل الجهات السِّتِّ نحوي مُشيرةٌ | وإنْ مِلتُ يوماً عنه فارقتُ مِلَّتي! بما ثَمَّ من نُسْكٍ وحَجٍّ وعُمرةٍ! |
* * *
عذراً التعليقات مغلقة