ليون النسمة الباقية في القلب
البشير القريمدي

كاتب من المغرب
أقول نسيتها وأعود شوقا.. كأن الشوق يعبث في قراري
..وإني وإن هممت إلى فرار ..أفر لها فتبا للفرار!
في رحلتنا إلى ليون لحضور احتفالها بعيد الأضواء حيث تبدو خلاله المدينة على أجمل صورة وهي تلبس فساتينها ذات الألوان الزاهية، وكأنها تريد أن تذكّر زوارها بالأغنية الشهيرة “معطفي ذي الألوان المتعددة” لدولي بارتن..
تنطلق في أمسيات الحفل مكبرات الصوت لتصدح طيلة الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر من كل عام بأعذب أنواع الموسيقى المرافقة للصور وشرائط الفيديو التي تعكسها واجهات المباني في أنحاء متفرقة من قلب المدينة العتيقة.. أخبرني صديقي أنه يتوق إلى النظر في حسنها وخضرتها وبهاء شوارعها الفسيحة ومياه نهريها الرون والسين ذات اللون البلوري، وزخارف بناياتها القديمة.. كان ينتظر دوما زيارتها ويشتهي تجدد اللقاء بأحضانها كما تشتهي التربة اليابسة المطر الأول.. واصل رفيقي في السفر اعترافه هامسا: أنا مشتاق للبسمة في عيون زوارها وهم يتبادلون هدايا ذكرى لقائهم الأول في محطة القطار لابارديو La Part dieu، بعد عودتهم من سفر طويل: أنا مشتاق للموسيقى المنبعثة من دار الأوبرا الوطنية، التي شرعت في نشر البهجة منذ النصف الثاني من القرن 18م، أحن لتلك التي يعزفها عن طيب خاطر صديق قيثارة يجلس في ركن من ساحة “دي طيرو” Place des Terreaux إلى جانب كلبه المدلل.. بصوت فيه حسرة وبعض عتاب واصل بوحه قائلا: وإذ أنسى لا أنس أن كل من حولي وبكل العبارات، الصادقة منها والمزيفة،
كان يصر أن يعلن لي أن قرار الرحيل عنها كان ضربا من الجنون، حتى دون أن يسألني عن رغبتي.. وبينما يحكي صديقي عن زمن فراقه لمحبوبته وجدت نفسي أخاطبها وأقول لها: لم يتخلّ عنك يوما ولم تغادر ذكراك خاطرَه ولا اسمك غاب عن لسانه وما ابتعد عنك إلا ليزداد شوقا إليك..
أخبرني عن رحلته الأولى إليك وكيف استقبلته سماؤك الرمادية، بقطرات من مطر خفيف، بدا له أجمل عطر، أذهب عنه تعب سفر السنين وطهره من آثار الحروب الخاطئة.. حدثني عن حنينه إلى دروبك القديمة المبلطة بالحجارة، ومقاهيك ذات الكراسي الخشبية، وشرفاتك المطلة على ساحة بيلكور Bellecour، حيث كان يحلو له أن يرتشف من فنجان قهوة مرة مصحوبة بقطعة من شوكولاتة، تقدمها نادلة أنيقة المظهر، وهي تضيف إلى خدمتها ابتسامة وكلمة ترحيب منمقة، ويقرأ صفحات من كتاب يستعيره من مكتباتك الغناء..
وهو يحكي تحت سحر موسيقى الألسن المختلفة أصواتها من حولنا في الطائرة التي صارت تحلق بنا فوق سماء مطار سانت اكزيبيري Saint- Exupéry، سمعت ضحكة لقائكما الأول ورأيتك وقد رسمت قبلة حارة على خده الأيمن وهو يخطو خطواته الأولى في شوارعك المستقيمة.. رأيته يتعثر ويتيه وأنت تساعدينه على المحاولة من جديد وترشدينه من خلال لافتات مكتوبة بحروف لاتينية بارزة ونور الرضى يشع من واجهات مبانيك الزجاجية الشاهقة..
لما وصلنا إلى المسرح الروماني على مرتفع لافوغفيغ – حيث تراءت لنا ليون بين أحضان نهريها – واصل صديقي اعترافه وقد لمسته عصا الحنين السحرية فصاح قائلا : كم كان علي أن أحشو وسادتي كل ليلة بحكاية من حكايات مائة عام من العزلة لكي أنام بلا كوابيس محمومة تؤرقني عن فراقنا، لكنني لم أتخل يوما عن موعدنا المحتوم..
لقد انتظرتني طويلا وكان علي المجيء كما عاهدتها، بحثت عنها في المطارات والموانئ والقطارات وسافرت من أجلها إلى مدن شتى، وجئت إليها أخيرا على قدر والتقينا، كان لقائي بها مرة أخرى لقاء رائعا.. أشرقت به شمس الحياة من جديد بقربها، وأحسست بالأمان في أحضانها، وفي كنفها نسيت سنوات البعد، وفي عينيها رأيت مدى رحابة الكون..
انظر إليها يا صديقي.. ألا ترى كل تلك الشموع التي تنير هذا الصرح الروماني وتعيد لنا ذاكرة ألفي سنة من وجودنا ؟؟.. انظر إلى تلك “الموزاييك” ألا تبدو لك تلك الرومانية ؟ إنها هي بالضبط من حدثتك عنها..
انظر إلى لامها ويائها وواوها ونونهنا إنها العاصمة القديمة الحفيدة الجميلة للأمبراطور ادريان !
شفشاون، المغرب
عذراً التعليقات مغلقة