د. محمد الزوهري
روائي وإعلامي من المغرب
كنت عصر ذلك اليوم في حي “القامرة” بالرباط رفقة الصديق إدريس الوالي نضع اللّسمات الأخيرة على عددٍ جديد من جريدة “صدى تاونات” داخل مطبعةٍ بالحي نفسه، عندما قاطعنا الصديق الصحفي علي مبارك الذي حلّ للتو بالمطبعة، وهمس إلينا أن أمرا جللا حصل بالبلد، لم يُعلن عنه بعدُ رسميا.
كانت الهواتف النقالة في بدايتها، ولم تكن هناك مواقع للتواصل الاجتماعي لاقتفاء أثر المعلومة، فسارعنا إلى تشغيل الراديو والتلفاز، ووجدنا تلاوات قرآنية في كل المحطات.
مرت الدقائق ثقيلة. انتظار وتوجس في كل مكان، وأخبار وإشاعات تتناسل هنا وهناك… إلى أن جاء الخبر اليقين برحيل الملك الحسن الثاني في بلاغٍ مؤثرٍ للديوان الملكي.
بفضولي الصحفي خرجتُ للشوارع المجاورة، ومررت بمحطة الحافلات- القلب النابض للعاصمة- لاستطلاع ردود فعل الناس.
كان الوجوم يعتلي الوجوه، ومشاعر الخوف والارتباك تسود في كل مكان. كانت تُسمع من حين لآخر ما يوحي بالعويل والنحيب من نوافذ حي القامرة الشعبي، بينما ارتسمت آثار الصدمة بوضوح على ملامح المسافرين وهم في طريقهم إلى محطة النقل وبداخلها. كل المؤشرات كانت تدل على حالة التأهب والانتظار.
في ساعة متأخرة من الليل دعاني الصديق عبد الحق المستاري للخروج. مشينا طويلا في اتجاه وسط المدينة. لم يكن هناك حظر للتجوال ولا وُضعت حواجز على الطرقات، لكن كان هناك حزن عام يغلف الأجواء. ابتهالات وأدعية شجية كانت تتناهى من المساجد القريبة، وحركة السير بدت فاترة في تلك اللحظات. شاهدت مدرعات عسكرية تجوب الشوارع ومركبات الأمن في كل مكان.
عدت من الشارع في ساعة الفجر، وفي الصباح كنت وسط المدينة. على امتداد شوارع “محمد الخامس” و”النصر” و”مولاي الحسن” تدفق آلاف المواطنين، وهم يحملون العلم الوطني وصور الملك الراحل وصور الملك الشاب. بدت بعض النسوة في حالة هستيرية وهن ينتحبن ويبكين بصوت عال، وبعضهن سقط أرضا مغمى عليهن. كان الجميع يسير في اتجاه واحد، هو القصر الملكي. بالباب الرئيسي للمشور السعيد اكتظ حشد هائل من الناس، أغلبهم من البسطاء. كانوا يتدافعون بجنون تحت شمس حارقة. رأيت شبابا وأطفالا يبكون وهم يهتفون “مات الملك، عاش الملك”. كانوا يعبرون جميعا عن حزنهم. تدفقوا من كل أحياء العاصمة ومن خارجها لتقديم العزاء….
لا حديث ولا اهتمام في تلك الأيام إلا برحيل الملك. تغطيات واسعة وشاملة لوسائل الإعلام الوطنية والدولية، وأتذكر أن الجرائد اليومية الوطنية أصدرت طبعتين صباحية ومسائية لمواكبة الحدث…
أصررت على البقاء بالرباط إلى حين مشاهدة مراسيم الدفن. وفي اليوم المعلوم أخذت مكاني مبكرا بشارع محمد الخامس قرب مبنى وزارة الاتصال سابقا؛ حتى أكون قريبا من الحدث. وبعد ساعات من الانتظار ووسط زحمة لا تطاق، مر الموكب المهيب راجلا وببطء شديد. كان المشهد مؤثرا تقشعر له الأبدان… قريبا جدا مني مرَّ “بيل كلينتون” و”جاك شيراك” و”ياسر عرفات” و”خوان كارلوس” و”شمعون بريز” و”عبد العزيز بوتفليقة” وقادة آخرون. كان يمشون متحررين بخطوات ثقلية ومن دون احترازات أمنية مشددة…
هكذا كنت شاهدا على حدث هام في تاريخ المغرب المعاصر، وقد مرت اليوم أربعة وعشرين سنة عن وقوعه، وكأنه حصل بالأمس فقط.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة