الآن، أنتِ أبعد
محمد الشايب
قاص من المغرب
سيدتي، يا من تسكنين بساتين البال، وتحلقين في سماء الأحلام، مازال حضورك، وإن اتسع الغياب، يسطو على مناطق الصمت، طيفك لا يغادر مسرح الوجود، واسمك واحة فسيحة، تتوسط صحراء الأيام.
سيدتي، المغيب صار إشراقا، والغياب لبس ثوب الحضور، والبعد، من كثرة التفكير، أصبح قربا.
الآن، أرتوي من عطش الغياب، وألبس من عراء الفراغ، وآكل من حصاد الجفاف، لكن الصبابة، أضرمت النار في غابة الفؤاد، فصبا الوجدان إلى التلاقي، وغردت طيور الوجد على أغصان الحنين.
اخترتُ أسرع ركوب، وأجمل لباس، وأحلى زاد، وأصفى صباح، وأطيب عطر، وألذ غناء، وأسهل طريق، وعزمتُ على تشييد وصل جديد فوق أرض خصبة، يخترقها نهر بارع في عزف ألحان الصفاء، ويحميها جبل واقف على الدوام ، يتلو قصائد الشموخ، ويكسوها سهل، يغني على مسرحه القمح، والشعير، والتفاح، والعنب.
رسمتُ أحلامي بألوان مجنونة، وامتطيتُ صهوة الرحيل، نويتُ أن أصل وبزوغ العيد، فأصلي صلاة الوفاء في معبد العشق، ثم أصعد الجبل، وأنزل إلى السهل، وأرتوي من النهر، وأقطف الفواكه من الشجر، وأذهب، وأعود في شارع الرغبات.
عمّر العطش طويلا، وحان الوقت ليهطل المطر، وتعزف الأنهار ألحان الرّي، وترقص السنابل، وتغني الأغصان.
اخترت أسهل الطرق، لكن السفر إليك، كان أصعب، امتدت الحواجز، وعلت، وكثرت الأشواك، وتلونت، وتعددت الأعطاب، وتواصلت، وعبست الجسور في وجهي، وولت، واكفهرت الأجواء، واسودت..
صعدتُ جبال التحدي، ورددتُ أناشيد الأمل، وأشعلتُ المصابيح في وجه الظلام، وزرعتُ المشاتل، وسقيتُ الشجر، وفي محطة ما من الرحيل، اختفتْ إشارات الطريق، وتعطلت البوصلة، واختلطت علي الاتجاهات..
أي سبيل أسلك؟ وأي اتجاه أتبع؟ الآن، لا أريد المضي إلا في طريقك، والطرق أمامي متشعبة، لن يهزمني عتاد اليأس، ولن أتقهقر، ولن أرفع الرايات البيض.. يكفي أن السنوات العجاف، طالت حتى استحالت سمينة، وعميت الأيام حتى صارت مبصرة، وتصالح البعد مع القرب، فأصبحا صديقيْن..
كنا صنويْن لا يفترقان، ولدنا معا، ونبتنا غريبيْن، تارة على صخرة، وتارة في سهل خصيب، تعلمنا الحروف الأبجدية في مدارس الحياة، فقرأنا، وكتبنا، ورسمنا، ولعبنا، ورقصنا، وزرعنا، وحصدنا، وسافرنا على متن قطارات السؤال، وعدنا على صهوات البيان، لم يفرقنا شتاء ماطر، ولا صيف حار، وعشنا الخريف، والربيع بين حقول الدهشة، وغنينا على الضفاف، وعبرنا النهر، وقطفنا فواكه الحياة.
أتذكرين يوم أينع البستان، وفاح العطر، وتوحد النصفان.. كان السهل أوسع سهل، والجبل أعلى جبل، والماء أحلى ماء، غنّى الوادي، وزغردت الأشجار، ورقصت الحقول، واخضرت الضفاف، واتسعت الظلال. وفي غمرة الفرح، واتساع رقعة الاحتفال، غضبت المقبرة، فشنت حربا طاحنة على مناطق المسرات، ثم استولت على الماء، والسنابل، والشجر، وحتى الحجر، وقسمت الواحد إلى نصفين.
طويتِ السهل، ورفعتِ الجبل، وأخذتِ الماء، وجمعتِ الفواكه، فنشرتِ يافطات الوداع، ثم لُذتِ بغياب قصي. وبقيتُ وحيدا، انزويتُ في ركن الحِداد، ولما توالت ظلمات الفراغ، وطالت، همتُ في صحاري الحر. عانيتُ، وتعبتُ، فلذتُ بواحات الأحلام، ثم جعلتُ من عطش مشتعل ماءً باردا، ومن غياب ظالم حضورا رحيما.
كانت الطريق إليكِ، سيدتي، عسيرة، تتخللها منعرجات خطيرة، وتضاريس وعرة، وصحارٍ قاحلة، ووديان جافة. وأنا آتٍ إليكِ، تخلت عني البوصلة، وخانتني العلامات، فصبرتُ، وقاومتُ، وجابهتُ، وتصديتُ إلى أن لاح صبح رقيق، رفق بحالي، فسقاني، وأطعمني، وزودني، ودلني على أسهل سبيل، فواصلتُ السفر بين السواقي الجارية، والأشجار العالية، والعناقيد الدانية، حتى لاحت أطيافكِ، ولوّحت لي أنواركِ، واستنشقتُ هواءكِ، وتنسمتُ أريجكِ، اقتربتُ ملهوفا، فوصلتُ متعطشا، ثم وطأتُ أرضكِ.
وأخيراً، سيتحقق الوصل، بعد سنوات طوال، ستسطع شمس اللقاء.. هكذا هتفتُ..
سرتُ بين سراديب الصمت، ففاجأني السكوت الذي يعتقل الأفواه، والجمود الذي يقيد الخطوات، والخريف الذي يسطو على القلوب. وصلتُ في ساعة مجردة من الرقم، والنسب، طرقتُ بابكِ، سيدتي، ودخلتُ، وجدتكِ نائمة، صرختُ فرحا، وهتفتُ ولعا، وناديتُ شوقا، لكني لم أتلق أي جواب، فأُخبرتُ أنكِ فقدت الذاكرة.
صعقتُ، وتوجعتُ، وبكيتُ، وغرقتُ في ندم غائر، وتمنيتُ لو بقيتُ في المنطقة البعيدة حيث كنتِ قريبة. بأعين دامعة، ظللتُ أمعن النظر إليكِ سيدتي. شاب رأس الجبل، وتقوس ظهر السهل، وجف ماء النهر، وذبلت الضفاف.
استبد بي قلق أسود، فجرفني جنون عنيد، ثم انطلقتُ، في الشوارع الحزينة، أصرخ بالأصوات كلها : ليتني لم أجئ، فالآن، أنتِ أبعد، الآن، أنتِ أبعد..
القصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة