د. أنور بنيعيش
/ المغرب
ظلت أفريقيا إلى ومن قريب منظوراً إليها على أنها قارة متخلفة مصدرة للهجرة السرية والأزمات بما يهدد بلدان الشمال الأوروبي المجاورة… وهي نظرة تحمل، عند التأمل، الكثير من المغالطات المقصودة؛ فالمركزية الغربية المزعومة جعلت الأوروبيين وغيرهم من المنتسبين إلى الدول المتقدمة يتعاطون مع مشاكل القارة السمراء بازدواجية التعالي المبالغ فيه والتباكي على معاناة الأفارقة المستمرة مع الفقر والجوع وسوء التدبير، وعلى ما يُبذل من مجهودات تستنزف المال والطاقة والموارد البشرية للتعامل مع هذا الجار غير المفيد، وعلى شعوبها التي لم تشب يوما على الطوق رغم حملات الاستعمار والتحديث التي سهر الغربيون على التضحية بأموالهم وأوقاتهم من أجل الرقي بالشعوب الأفريقية… وهي صور نمطية ما فتئ الغرب يعززها، ويستحضرها في كل مناسبة لفرض سلطة وصايته الرمزية على أبناء القارة ثقافية، والفعلية اقتصادياً.
غير أن هده الصورة المكرسة للسيادة الغربية، بدأت تنكشف سوءاتها مع صعود بعض الاقتصادات الأفريقية بمجهودات أبنائها وقطيعتهم مع التبعية مع السلطة الرمزية للمستعمِرين القدامى مثل “رواندا” التي نجحت في الخروج من دوامة الاقتتال الداخلي وتاريخ مرير من المذابح بين “التوتسي” و”الهوتو” والوصول إلى معدلات تنمية مثيرة للإعجاب وكذا “تنزانيا” وبعض بلدان الشمال الأفريقي… إضافة إلى جنوب أفريقيا التي بدأت تستعيد بُعدها الثقافي الأفريقي بعيد انسلاخها من نظام الأبارتهايد العنصري…
وبالموازاة مع ذلك، عرفت دول أفريقيا أخرى تعيش وضعيات مزرية بسبب الأنظمة الفاشلة التي دبرتها عبر مراحل من التواطؤ الخفي مع الغرب هبَّاتٍ توعوية كبيرة أفرزت شباباً متحمساً للاستقلال عن الوصاية الغربية ولاكتشاف الذات بطاقاتها وإمكانياتها الكبرى التي طالما نهبتها قوى استعمارية بدعاوى إنسانية أو ثقافية، مما أفرز ضغوطات على الأنظمة القائمة، وأدت إلى انقلابات عسكرية بيضاء مدعومة من الشعوب مثلما حصل الأمر مع مالي وبوركينافاصو والنيجر مؤخراً وما كشفه من توغل المصالح الفرنسية في هذه البلدان على حساب شعوبها. وفي كلمة رئيس الانقلابيين الشاب في بوركينافاصو “إبراهيم طراوري” ما يكشف الكثير من الحقائق، ويبرز تنامي وعي جديد لا يقبل بأن تكون خيرات القارة السمراء الدافئة للشمال الصقيعيّ… ففرنسا التي استعمرت معظم بلدان الساحل الأفريقي، ثم توغلت اقتصاديا وعسكريا بعد حصول هذه البلدان على استقلالها بدعوى محاربة داعش والحفاظ على أمن المنطقة… لم تقدم لهذه الأرض المعطاء التي ما طفقت تستنزف خيراتها مقابلا حقيقياً على مستوى معيشة المواطن المحلي وكرامتها فيورانيوم النيجر يضيء سماء باريس في حين يترك النيجريين في دوامس العتمة والجهل والفقر والمرض…
لقد اعتمدت فرنسا في سياستها الخارجية على توطين المنهج الاستعماري السابق باستمرارها في استغلال خيرات البلدان الأفريقية ومصادرها الطبيعية المتنوعة دونما أن تقدم لشعوبها في المقابل ما يحقق لها العيش الكريم؛ وهكذا بدأنا نقف على مشاهدات مخزية في أفريقيا حيث تتجاور المعامل والمناجم الفرنسية في أفريقيا مع أحياء ومدن فقيرة أشبه ما تكون بتجمعات فوضوية لا تستفيد من أدنى شروط الحياة داخل أراضٍ غنية باليورانيوم والذهب ومعادن نفيسة كثيرة أخرى. مثلما هو الشأن بالنسبة للنيجر وبلدان الساحل الأفريقي. الشيء الذي مهَّد لانتفاضات متوالية على الأنظمة الموالية للسياسات الفرنسية في هذه البلدان… وغيَّر مفهوم الانقلاب العسكري من ضربات ديكتاتورية عنيفة تعبر عن نزوع بعض الضباط إلى السلطة نحو مفاهيم الإنقاذ والاستماع إلى صوت الشعب والانتصار للمظلومين من الديموقراطيات الزائفة التي تأتمر بأجندات لا تخدم المجتمعات الأفريقية كما كشف عنها الواقع المرير لكثير من دول أفريقيا جنوب الصحراء… حيث أتت الانقلابات بتأييد شعبي ملحوظ جعلها تتحقق بدون خسائر بشرية تذكر، ولا دماء تسفك. بل ظهرت قيادات عسكرية حظيت بشعبية كبرى وأبدت على الأقل فيما حدث لحدود الساعة تَفهُّماً كبيراً لمطالب الشعوب خاصة دول الساحل الأفريقي بإحداث قطيعة مع الدول الغربية التي هيمنت على اقتصاداتها وتوجهاتها السياسية لعقود أثناء الاستعمار وبعده، وأفضت لحالات من الفقر والفوضى وانعدام الرؤيات الإصلاحية الحقيقية وضعف استفادة الشعوب من خيرات أوطانها وثرواتها الهائلة.
ولعل هذا ما شجَّع الذين وصلوا إلى السلطة في دول الساحل والغابون إلى إعلان ما يشبه الرفض الكلي للتدخل الغربي عامة والفرنسي خاصة في الشؤون الداخلية لها، وجعلت فرنسا تعيش أحلك عصورها الديبلوماسية في التاريخ المعاصر في النيجر وبوركينافاصو ومالي والغابون وغيرها؛ مما يؤكد أن أفريقيا بدأت تعي المعادلة الصعبة التي كانت مفروضة عليها من الخارج حيث الأرض الغنية بالثروات تعادل شعوباً فقيرة منهكة محتاجة إلى المساعدات ومعرضة لكل أشكال الانتكاس والضعف كما أشار إلى ذلك إبراهيم طراوري ذات مؤتمر في موسكو. وهو ما أكده مؤخراً رئيس غانا في خطابه أمام الجمعية العامة في الدورة الأخيرة الثامنة والسبعين، حينما أشار إلى أن العالم ليس مكانا تسوده السعادة، وهناك فقدان الثقة في الأجهزة والمؤسسات التي وجهت العالم في العقود السابقة مشيراً إلى الغرب الذي يُغلب المصالح الضيقة على حساب المصلحة العامة للبشرية جمعاء ويُرسخ الظلم التاريخي الذي عانت منه أفريقيا منذ قرون والاستغلال الأوروبي والأمريكي لخيرات الأفارقة.
إن كل ذلك يكشف عن هبَّة أفريقية شاملة تستشعرها الشعوب وتعبر عنها بعض الحكومات المواطنة في مواجهات الخطابات الجامدة للغرب وتناقضات ادعاءاته النبيلة وممارساته الحقيقية التي تقوم على استغلال الأفارقة والتضحية بشعوبها من أجل مراكمة ثرواته والرفع من مستوى رخاء شعوبه. فأفريقيا الصابرة عن الظلم والاستغلال والتهميش في صمت بدأت تختفي وإلى الأبد، لتقوم بدلها أفريقيا أخرى ثائرة واعية بالفارق الكبير بين مؤهلاتها وبين هشاشة أوضاعها المعيشية والاقتصادية، وحجم تأثيرها على القرارات الدولية؛ فلا خيار للعالم عامة والغرب خاصة إلا أن ينصت بتمعن إلى هذا الصوت الجديد القادم ويتعامل معه بالتناسب مع حجمه الحقيقي ممثلا في إسهامه في ثروات العالم وخيراته.
عذراً التعليقات مغلقة