د. أنور بنيعيش
/ المغرب
أضحت فرنسا في الأسابيع والأشهر الأخيرة حديث الساعة بصورة عجيبة عبر أحداث متوالية يصعب التصديق أنها أتت صدفة من الصدف النادرة عن سوء الحظ فقد توالت على الدولة التي تعد من المجتمعات المتقدمة وتمثل أبرز تجليات الحضارة الغربية في مختلف جوانبها، فبعد أسابيع من شدِّ الحبل بينها وبين السلطة الحاكمة في النيجر، والتعنّت في إنكار الأمر الواقع والتشبث بواقع ما قبل الانقلاب العسكري التصحيحي خرجت فرنسا خاسرة لمعركة كسر العظام، حيث قرّر أخيراً ماكرون سحب التمثيلية الدبلوماسية ومئات الجنود الفرنسيين الرابضين هناك إذعاناً لطلبات المجلس العسكري الحاكم. بيد أنَّ آخر محطات هذه الأحداث الغريبة والمُضعفة لصورة فرنسا وتاريخها العريق، أتت ضربتها القاصمة من الداخل الفرنسي وفي شكل حشرة صغيرة الحجم لكن بأثر مُدوٍّ كشف هشاشة البنية التحتية وضعف السياسات الاجتماعية المتبعة في فرنسا بما ترك فرصة لعودة آفة طبيعية إلى الظهور وبقوة من جديد بعد عقود من حسم المعركة ضد هذه الحشرة منذ خمسينات القرن الماضي، ذلك أن اجتياح بقّ الفراش للأماكن العامة الفرنسية ووسائل المواصلات من قطارات وحافلات وطائرات في مطار باريس الشهير “شارل دوغول” يقدم صورة قاتمة لواقع الفرنسيين ومعاناتهم اليومية في ظروف مقلقة غير مريحة حسب ما صرَّح به بعض المسؤولين أنفسهم وعلى رأسهم أحد وزراء الحكومة الحالية، ويجعل البلدان الأوروبية المجاورة تراقب الوضع عن كثب بنوع من القلق قد يفرز إجراءات احترازية من شأنها حرمان الفرنسيين من التنقل الحر بين الدول المنتمية لفضاء شنغن.
وغني عن الذكر أن “بق الفراش” ليس حكراً على فرنسا لوحدها، بل يحضر بحدود ضيقة في مناطق بعينها داخل بعض البلدان الفقيرة، بينما تظل الفضاءات العامة والخدمات العمومية محمية ضد هذه الحشرة وغيرها. لكن استفحال الظاهرة في إحدى الدول الأوروبية الكبرى كفرنسا خاصة في مدنها الرئيسة وعلى رأسها باريس يُهدّد جانباً هاماً من المداخيل الفرنسية ممثلة في السياحة من جهة . كما أنّ العودة إلى نقطة الصفر في القضاء على مثل هذه الآفات يعبِّر عن نكوص خطير في السياسات المتبعة للحفاظ على الصحة العامة، ويقتضي خسارات جسيمة تتكبَّدها القطاعات المختلفة، واقتطاعات بالجملة من الميزانية العامة من أجل توفير التمويل اللازم لمحاربة هذه الحشرة والحد من سرعة انتشارها. وهو ما يزيد الأوضاع تأزما في فرنسا بعد أكثر من محطة مفصلية مرت بها من أجل الحفاظ على توازناتها الاقتصادية في ظل ظروف قاسية فرضتها توالي سنوات من الانكماش الاقتصادي منذ انتشار فيروس كوفيد، والحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة الغليان الشعبي ممثلا في خرجات دوي “السترة الصفراء” واحتجاجات الرفض لقانون التقاعد الجديد…
كل ذلك أسهم بشكل أو بآخر في إضعاف فرنسا، وأبان عن اختلالات بالجملة في تدبير الشأن المحلي والدولي من طرف حكومات ماكرون المتوالية، وشكل جزءا من المعاناة المستمرة للفرنسيين خاصة منهم الطبقات المتوسطة وما دونها في ظل حكم الرئيس “ماكرون” الذي لم يؤثر فوزه بولاية رئاسية جديدة في تغيير الأوضاع نحو الأفضل. وإنما كثرت الشكاوى من واقع الفرنسيين الحقيقي بعيداً عن الصورة المثالية في مخيال شعوب ودول العالم الثالث. حيث صُدم الكثيرون وهم يرون مدينة الأنوار “باريس” مثلا تجتاحها الفئران وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أشرطة تظهر فيها جحافل الفئران السمينة تتجول قرب برج “إيفيل” الشهير، وأخرى تخترق أكياس مقتنيات الزبائن من محلات راقية أو تتوغل في ملابسهم. وهو ما يجعل بلداً يُفتَرضُ أنه متطورٌ كفرنسا يفقد مصداقيته أمام العالم، وقدرته على توجيه الآخرين أو تقديم النصائح لهم أو انتقادهم، إذ إن ترتيب البيت الداخلي وضمان الرفاهية للمواطنين ينبغي أن يكونا من أولويات الحكومة. وظهور فرنسا بهذا الشكل المزري من الإهمال وانعدام الشروط الصحية يؤثر في تمثلات باقي بلدان العالم عنها، وسيقود حتماً في حال استمراره وتكرار تجلياته إلى فقدانها التدريجي لقيمتها الاعتبارية ووزنها في المنظومة الدولية، حيث يمكن بسهولة أن تتحول في المنظور العالمي من قوة عظمى إلى دولة منخورة من الداخل يعيش مواطنوها في أوضاع صحية لا إنسانية وغير مقبولة دولياً، وتتحول من قوة مؤثرة ناصحة وازنة في القرارات المتخذة دولية إلى دولة تتأرجح تحت ضربات انتقادات الداخل والخارج، بما قد يعرقل مشاريعها التنموية المستقبلية ويضعها في مواقف محرجة من التندر والسخرية والفكاهة، لتضحي سمعة بلد الأنوار في مهب الريح بسبب بقة. ولله في خلقه شؤون.
عذراً التعليقات مغلقة