البشير القريمدي ، كاتب مغربي .. رحلة إلى روما و صكوك غفران حديثة

24 يناير 2024
البشير القريمدي ، كاتب مغربي .. رحلة إلى روما و صكوك غفران حديثة

زيارتي إلى روما- راقصة الترنتيلا

البشير القريمدي

كاتب من المغرب 

لطالما كنت تواقا إلى تحقيق رغبة راودتني عن نفسي كثيرا؛ رغبة السفر إلى روما، مهد الإمبراطورية الرومانية، المدينة التي تمتاز جل أركانها باستنفار تاريخي وأركيولوجي، المدينة التي ترتدي رداء تاريخ الحضارة الرومانية المطرز بزخارف إتروسكية وإغريقية.

لست أنكر أن هذه الرغبة لم تكن وليدة لحظة زمنية آنية، ولكن تحقيقها كان موسوما بطابع العفوية، إذ أنني لست ممن يخططون دائما للسفر..

كان فضولي كبيرا إلى معرفة جوانب من تاريخ البُناة، من خلال مشاهدة إنجازاتهم رأي العين، إلا أنني كنت أخشى أن يحدث لي مثل ما حدث للقائد القرطاجي حنبعل، الذي لم يتمكن من دخول روما رغم محاصرته لها مدة خمس عشرة سنة، كما كنت أخشى أن يصاب اشتياقي لها بالوهن. وجدت نفسي مدفوعا لأن أمضي إليها حرا طليقا لكي أتأبط ذراعها دونما ذريعة رسمية..

استقبلتنى روما بقطرات من مطر أزالت عني تعب طابور المطار من أجل ختم الجواز.. ومنذ اللحظة الأولى أحسست بانجذاب كبير إلى هذه المدينة التي لا تعرف من أمري شيئا بينما أنا حريص ألا يفوتني من أمرها شيء، ولقد تبادر إلى ذهني للوهلة الأولى أنه كان من الممكن أن أتعرف على تاريخها من خلال المطالعة، ولكنني لست أكتفي بالممكن ولا أطمئن إلى الظن بل أطمع في اليقين.. فما أفتك الظن بالناس إذ يرسمون صورة مشوهة للآخرين بريشة الظنون..

تبادلنا على الفور عاطفة غريبة في نشأتها. لم أكن واثقا من احتضانها لي ونحن في أيام كانون الأول/ ديسمر الباردة، لم أهيئ نفسي للقائها ولم أبحث عن الشروط التى ينبغي توفرها في من هو مقبل على أن يخطب ودها قبل أن تطأ قدماه أهم ساحاتها أو دخول متاحفها..

صباح تحليقي فوق سمائها، عرفت أن نهر التيبر الذي يعبرها أكسبها ملامح خاصة وأنعم عليها بجمال وسحر ذكراني بمعشوقتي القديمة ليون ونهريها السين والرون.

لم أكن مستعدا لأقارن بين المدينتين، إذ علمتنى السنوات أن أتفادى المقارنة وأنا تحت تأثير الانبهار.. في روما وجدتني أقول في نفسي بعفوية ودونما عميق تفكير:حقا ما أشد استئثار الجمال بنفوسنا!

في محطة القطار الرئيسة في روما المسماة روما طيرميني Roma Termini قصدت شباك الإرشادات وطلبت من المشرفة أن تمدني بدليل زيارتها وأرقام الخطوط الناقلة لأهم معالمها.

 كنت أريد أن أبدأ زيارتي مباشرة من الكوليسيوم.

 نظرت في خريطة الدليل فعلمت أني لا أبعد كثيرا عن هذا الذي من أجله جئت إلى روما. وبعد أن وضعت حقيبتي في الفندق الذي لم يكن بعيدا عن هذه المحطة.

ورغم أني قمت بشراء تذكرة مدة صلاحيتها أسبوع كامل تسمح لي بالركوب في كل الاتجاهات سواء في الحافلة أو في القطار أو في قطار الأنفاق، قررت أن أسير إليه راجلا..

على مشارفه أصاب فؤادي رمح صوبته محاربة رومانية من عهد الحروب البونية، التي حارب فيها القرطاجيون ضد الرومان.

لو كان رمحا واحدا لحاولت صده بدرع اللامبالاة، ولكنه رمح وثانٍ وثالث. نظرت إليها وأنا أتفرس في ملامحها، فجّرني هواها الشرسُ عندما بادلتني نظرة بنظرة وابتسامة بابتسامة، رفعتني من مقام الشهوة إلى مقام أجل وأسمى، مقام صعُبَ علي تحديد ماهيته لكنه أخذني أخذا وقد خُيِّل لي أنها طالبة في شعبة التاريخ بجامعة روما فأمعنت فيها النظر أكثر فأكثر وطلبت منها إرشادي إلى مدخل الكوليسيوم فلم تتردد في اصطحابي لأنها كانت تسير في نفس الاتجاه كما فهمت ذلك من إشارتها.

بالرغم من أنها أجابتني في البداية باللغة الإيطالية ذات السحر الموسيقي الآخاذ. وأنا أسير إلى جانبها، حاولت أن أصيخ السمع إلى شروحاتها لعلها تكشف لي بعض أسرار هذه المدينة..

بادرتني بالسؤال عن انطباعي حول زيارتي لمدينتها وقد علمت أني أقوم بها لأول مرة، فلم أتردد في القول بأن أكثر شيء أثار شهيتي وزادني يقينا بأن أبواب الجمال في روما لا يحتاج المرء إلى دلائل لفك شيفرتها، بل إنها تقرأ من تلقاء نفسها.. لم أخْفِ عنها فرحتي إذ تم استقبالي من طرف الرسام الشهير ليوناردو دافينتشي مادا ذراعيه مرحبا بي في بلد أجداده وأجدادها؛ الفيلسوف شيشرون، والمؤرخ بلين، والجغرافي بطليموس والرحالة ماركو بولو.. لم أتردد في أن أعلن لها اندهاشي من بعد المسافة والهوة الكبيرة ما بين الذي درسته في الأوراق في مقهى الريو وأنا طالب في شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في مارتيل وما أشاهده الان ماثلا أمامي! أخبرتها أيضا بأن روما بدت لي كمتحف كبير مفتوح أمام الجميع يعرض تاريخها العريق بدءا من المطار الذي يستقبل الزوار بأعمدة رخامية فخمة، وتماثيل متناهية الدقة لأباطرة الرومان ورواد الحركة الإنسية، فأينما وقعت العين رأت تحفا متعددة أشكالها وأنواعها، من نافورات ومجسمات تحكي أساطير الأقدمين، وتُدِرُّ أموالا على المواطن الإيطالي المعاصر، ناهيك عن جداريات الموزاييك التي تكاد تؤثث كل شارع من شوارع هذه المدينة الأزلية. فالتاريخ فيها يفيض من كل حدب وصوب، والجمال يكاد يتدفق من كل ناحية وله في كل ركن مساجلة.. هذا ما بدا لي وأنا أقصد الكولسيوم رفقة مرشدتي الإيطالية التي تتقن لغات شتى، إلا أنها لم تخف عني امتعاضها من اللغة الفرنسية..

لما وصلنا إلى الكوليسيوم رفعت عيني أتأمل الأعمدة والأقواس المنتصبة انتصابا وكأنها في انتظار موكب نصر جديد، أطلت النظر في هذا الصرح الشامخ الذي يجمع ما بين الضحك والبكاء، والفرح والحزن، والعبث والتفجع، والتهليل والنحيب، والمجون والحكمة، والهزيمة والنصر. فأدركت أن كل بداية تتلوها نهاية وكل نهاية تعقبها بداية وهي حقيقة لا تحُول ولا تزول.

طلبت منها أن تطلعني على بعض ملامح تاريخ هذا الصرح المعماري المهيب فقالت:

إن كانت فرنسا تفخر ببرجها الحديدي الباريسي فرمز رومها وقلبها النابض بالتاريخ الكولوسيوم، هذا المدرّج الضخم الذي يتوسّط المدينة، شيده جدنا الإمبراطور فيسباسيان منذ أكثر من ألفي سنة. في العام 72م. كانت علامات الاعتزاز بادية على محياها وهي تواصل حديثها قائلة:

يمكنك أن ترى الكولوسيوم في أرجاء المدينة عن بعد، لكن عظمته وعمقه التاريخي لا يظهران لك إلا حين تقترب من هيكله البيضاوي العملاق. فيمكنك آنذاك أن تلاحظ ما خلفته السنون من ندوب، بل وتقرأ على جدرانه عذابات وآهات العبيد وهم يساقون لمصارعة الضواري. بل إن كنت محظوظا ومنقبا أثريا بارعا، قد تكشف موعدا غراميا قطعه عاشقان من القرون الأولى ما يزال محفورا ومؤرخا لعهد نُقش ووعد خُتم ظل محفوظا في الصخر..

كنت على وشك أن أطلب منها أن ترافقني لدخول هذا المبنى الرهيب لكني آثرت أن أكتفي بشكرها على إرشادي وأواصل جولتي رفقة جحافل السياح من كل جنس.. ولم أتمكن من ذلك إلا بعد الوقوف في طابور طويل والمرور بعملية تفتيش دقيقية. حين خطوت الخطوات الأولى داخله شعرت بالرعب وكأني أسمع صراخ آلاف من لقي حتفه هنا يصدح في الأرجاء. فهمست في نفسي : أحُفرت آلامهم في ذاكرة المكان الذي غصّ في زمن مضى بمشاهدين شغلوا المقاعد كلها؟ في تراتبية اجتماعية تصنف الناس حسب معيار مادي صرف، فيجلس الأغنياء في المدرجات القريبة من مكان العروض بينما تجلس الدهماء في الصفوف البعيدة، تفصل بينهما ممرات تحُول أن يجتمع الغني بالفقير؟.

حملت أسئلتي معي وقصدت أمكنة أخرى لعها تمنحني بعض الإجابات.

وجدت أنه من السهل جدا أن تزور كل معالم روما، فما عليك إلا أن تقصد محطة روما تيرميني Roma Termini ومنها تستقل قطار الأنفاق أو حافلة إلى حيث تقصد..

في اليوم الموالي ركبت الحافلة رقم 85 التي تمر بالقرب من نافورة تريفي Fontana di Trevi، وهي من أشهر النّوافير في العالم. يزورها السياح ويلقون فيها قطعا نقدية راجين أن تتحقق أمانيهم…

لما وصلت إلى النافورة بعد السير قليلا في أزقة لا تبدو أنها تقود إلى معلمة بهذه الشهرة، هالني الزّحام حولها، والذي وجدته يفوق تكدّس السيّاح أمام لوحة الموناليزا في زاويتها في متحف اللّوفر في باريس، بشكل يفسد عليهم متعة رؤية واحدة من المعالم الأثرية الأشهر في العالم؛ حيث تبدو أقلّ حجمًا مما يتخيل السائح قبل زيارتها.ازدحم المرابطون في السّاحة الصّغيرة المحيطة بها، ينتظرون انفضاض الجمع للانفراد بها، وأخذ صورة تذكارية تؤرخ للزيارة والرجاء المراد تحقيقه.

وضعت يدي داخل جيبي أبحث عن قطعة من فئة “واحد أورو” أمسكت بواحدة وأخرجتها فإذا هي درهم مغربي. هممت بإلقائه في النافورة، لكني تساءلت:

ألن يعاني هذا الدرهم الرمادي اللون من التمييز والانتقاص من قيمته؟؟ حينما يجد نفسه في القاع محاطا بقطع شقراء ذهبية اللون؟؟.. أي رجاء أفصح عنه أولا؟

تزاحمت الأمنيات في ذهني حتى صعب عليّ ترتيبها ودون أن أرهق ذهني بطويل تفكير ألقيت بالدرهم في النافورة وأنا أتساءل : لِمَ لا يصير موضع بوزعافر في شفشاون شبيها بهذه النافورة التي تجني منها بلدية روما ملايين الأوروهات سنويا.

أقمت في روما أربعة أيام مرت كأنها ساعة، لم أتمكن من اكتشاف أسرارها رغم أني زرت جل معالمها ودخلت متاحفها وكنائسها، إلا أنها أثارت في نفسي من الخواطر ما يثير. وكم تمنيت حينما حانت ساعة الفراق لو أنها صدتني عن الرحيل، فقطعت وعدا بالرجوع.

على مقعدي في طائرة العودة إلى مطار طنجة ابن بطوطة كنت أحاول أن أستعيد مشاهداتي لأثث بها ذاكرتي فصعب علي ترتيبها وهي التي تجمع بين كثير من المتناقضات فوجدتني أتساءل :

كيف يستقيم الحال أن تجاور مظاهر عمق التاريخ والحضارة مظاهر الرذيلة والانحطاط الإنساني؟ ما قيمة خطاب أصحاب الشأن الديني في روما؟ مِنَ الذين يخطبون في كنيسة سانطا ماريا وسان بيطرو عن المحبة؟ ألم يخبرهم أحد أن هناك بؤسا على بعد أمتار قليلة من تحفتَيهم المزينتين بسخاء كبير؟ ما قيمة هذا البنيان من مرمر ورخام وزخرف الألوان وهو فارغ من الإحسان لِمن يَبيت في العراء يلتحف السماء؟ ألم تحرك أجراس كنائس المدينة التي ترن على رأس كل ساعة وتتداخل أصواتها في المدى ضمير بائعي صكوك الغفران الحديثة؟ فيجعلوا لهؤلاء المشردين عُشرا من عائدات صكوكهم؟!

النص خاص لصحيفة قريش – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com