زخم الصور وقيمتها الدلالية والجمالية في شعر« خريف المآذن »
عبد النبي بزاز
ـ المغرب
يتميز ديوان « خريف المآذن » للشاعر العراقي باسم فرات بسمة التجديد على مستوى البناء الفني والدلالي .
من ناحية النسق الجمالي تنبني نصوص المجموعة على أسس إيقاعية وبلاغية تحتل فيها الصور الشعرية مكانة بارزة حيث تمتح من منابع غزيرة المادة ، عميقة الأغوار والمجاري مما يصعب الإحاطة بتشكلاتها وتجلياتها ، وتبين مدخلات انسيابها وسريانها ، وما يخلقه من رؤى ، وما ينحته من طرائق ومسلكيات موسومة بنوعية الانزياح ، و متغير الاختلاف . ومن هذه الصور قوله : ” صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها ويهرول بين الأمطار والشظايا ” ص 7، في استعارة للصهيل كصوت يعج بغناه الدلالي ، وبعده الرمزي ، وما يجسده فعل الاتكاء على صحراء تضاعف منسوب قروحها ( حدادها )، وفعل الهرولة بين الأمطار وما تزخر به من عطاء وسخاء يفرز الخيرات العميمة ، والبركات الغزيرة ، والشظايا وما تحمله من بقايا رزء وخراب في عكس لقدرة الشاعر البارزة على خلق كم هائل من صور تقارب بين أطراف متباعدة ، وتؤالف بين أبعاد متناشزة في وحدة شعرية بنهج مغاير ومختلف يتوالى زخم تعابيره ، وتتنوع أبعاد معانيه ، وتتسع آفاق دلالاته كما في صورة : ” كيف أن أبل لساني بهزيع التمائم ” ص 8، في تساؤل يقلص الهوة بين تباعد المعاني في منح اللسان طاقة ( الابتلال ) لمواصلة عملية التعبير ، والجهر بما تختزنه الحنايا ، وما تمور به المشاعر ، وهي مكونة من ( هزيع ) شطر زمني متأخر كمعبر أو منعطف لتحول يتجسد عبر ( تمائم ) كمعتقد لدرء السوء ، وتجنب عواقبه .
وهو تداخل يمنح الصورة تشابكا تعبيريا ودلاليا يظل مشرعا على تعدد القراءة والتأويل . فتسترسل وتيرة المجاز ، وتتنوع إيقاعاته متوسلة بمكونات بلاغية كما يتجلى ذلك في : ” في جيوبي تستريح كواكب ” ص 46، وفي : ” لبست متاهتي ” ص 31، تعبير يخلق أفقا مختلفا ومغايرا ، أن تستريح الكواكب في جيوب الشاعر صورة تستدعي عدة معرفية ، رصيدا جماليا لفك خيوط شفرات معانيه في تشعباتها وامتداداتها ، وأن يتدثر برداء متاهة مجهولة الأبعاد والمرامي . فسيل الصور وتواليها عبر إيقاع التبدل والتغير في انزياح عن المألوف يفتح ، أمام القارئ ، أفقا لا محدودا للتساؤل والبحث في استخدام كل الطرق المتاحة ، والتوسل بمختلف أدوات القراءة والتأويل القمينة بمقاربة أشكال الصور الشعرية في طرائق تعبيرها ، وأساليب دلالاتها المستعصية على الإحاطة و التحديد لما تجترحه من أسئلة شائكة النزعة والطبيعة ؛ اذ كيف يتم إنزال السماء إلى سرير الشاعر ، وإرقاص النجوم ؟ : ” عن سماء أجلستها فوق سريري وأرقصت نجومها ” ص 31، وهي قدرة فائقة على استشراف أسمى الآفاق ( السماء) ، وتطويع أبعد الكواكب ( النجوم) ، صور في حلل مجازية ، وعمق دلالي يصعب الخوض في مكوناتها ، وملامسة غنى أبعادها ، واستكناه مكنونات معانيها . فضلا عما تتوسل به من استعمالات بلاغية من طباق بين العتمة والضياء : ” بغداد … ليل يجفف عتمته بضيائي ” ص 10، وما تحفل بها العبارة من رمزية دلالية تمنحها منحى جماليا تقابل فيه عتمة الليل ضياء الشاعر الذي يمنحه توهجا ووضاءة ، وجناس : ” في أقصى جنوب الجنوب” ص 77، فضلا عن خلق إيقاع يمنح النصوص جرسا موسيقيا على شكل قافية ( التاء والياء ) كما هو الحال في أولى نصوص المجموعة « إلى لغة الضوء أقود القناديل » : ” ولأني بلا أمجاد ترصع حياتي … فنثرت على الشبابيك لهفتي وعلى الأبواب خيباتي. ” ص 16، كما تتشكل اللغة أيضا من مفردات تنم عن حس انتقائي في رسم معالم النصوص ، وتحديد أفق أبعادها الدلالية والجمالية حيث تؤثث فضاء الديوان كلمات مثل ( النيازك ، أرخبيلات ، الآس ، النرجس ، أتون ، البردي ، الغسق ، الزيزفون ، سلسبيل ، رمضاء ، برزخ ) ، وما تزخر به من حمولات تعبيرية ودلالية . والأماكن أيضا بمرجعياتها التاريخية والحضارية والعقدية ك ( بغداد ، والفرات ، ودجلة ، وكربلاء ، ونهر الحسينية ، وساحة الحرمين ، وشارع العباس ) في تساوق وتقاطع مع أصول هوية : ” أنا السومري المدجج بالأحلام والأسئلة ” ص 13، ضاربة في عمق التاريخ كالحضارة السومرية التي بزغت ببلاد الرافدين ، وما عرفته من إشعاع خلد اسمها في سجل تاريخ الحضارة الإنسانية . بحثا ، في ظل راهن مهتز وعاصف ، عن وطن تجتاحه الحروب والنكبات : ” آه أتذكر أنني بلا وطن وأن الحروب ما زالت تلاحقني وتغير أشكالها ” ص 47، ففي غياب وطن ينعم بميزة الهدوء والاستقرار بسبب آفة الحروب وما تخلفه من مظاهر تشريد وتهجير وضياع تقود إلى حياة الملاجئ الحبلى بأشكال مزرية من ضنك عيش ، وما ينجم عن ذلك من تبعات محبطة حسيا ونفسيا وذهنيا مثل ما نقرأ في نص « أقول أنثى .. ولا أعني كربلاء » : ” سنواتي ذاتها ثقبتها الملاجئ ” ص 52، تعبيرا عما أحدثه زمن الملاجئ من فجوات في النفوس يصعب رأب تصدعاتها ، واندمال جروحها ، بل يتضاعف منسوب المعاناة ليتحول إلى منفى : ” وحين تطلعت إلى الوطن ابتلعك المنفى ” ص 77، فيبقى المنفى بديلا قسريا أملته ظروف عن الوطن/ الحلم ، وفي تساوق مع نفس السياق تم ذكر الحلاج كقدوة ومثال لما تعرض له من تحامل وتضييق بلغ حد الإعدام على يد الخليفة المعتد بالله بسبب آرائه الصوفية التي شكلت نقطة خلاف وجدل بينه وبين الفقهاء والقضاة الذين رموه بتهمة الكفر والزندقة : ” أطعموا الحلاج صبرهمو ” ص64،
حيث يتم التأسيس لمشترك الصبر والثبات على الإيمان بقضية المعتقد الفكري لدى الحلاج ، وقضية الحلم بالرجوع إلى أحضان الوطن بالنسبة للمهجرين عن أوطانهم نتيجة الحروب .كما كان للعنصر الديني حضور لافت في ثنايا نصوص المجموعة مثل ما ورد في نص « خريف المآذن .. ربيع السواد .. دمنا ..!!» من ذكر لسدرة المنتهى في استلهام من النص القرآني ( سورة النجم ) : ” عن يميني سدرة المنتهى ” ص 68، كما ورد في السورة : ” عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ” ، وحسب الرواية فهي سدرة عظيمة تقع في السماء السابعة من الجنة .
ولعل ما يميز مجموعة « خريف المآذن » الشعرية غناها بصور كثيرة تنم عن قدرة بارزة على خلق أشكالها وتنويعها في استيفاء لعناصر بلاغية وإيقاعية ودلالية تؤسس لأفق شعري بخاصيات وميزات نوعية وجمالية مطبوعة بسمات التجديد ، وملامح التبديل والتغيير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ خريف المآذن ( شعر) للشاعر باسم فرات
ـ مطبعة صهيل للأنباء والنشر ـ القاهرة مصر/ طبعة ثانية 2017
عذراً التعليقات مغلقة