ظل قلمه سيّالا حتى أسلم الروح
رحيل الكبار
نجيب العوفي
ناقد أدبي وكاتب من المغرب
وحين يرحل الكبار، يكون وجع الرحيل كبيرا، أشدّ وقعا ومضاضة على النفس. ويكون الإحساس بالفقدان والفراغ بعدهم بالغ الوطأة والحزن، وبخاصة حين يكون عطاء الكبار موصولا ونبع فكرهم نضّاحا لا يعتريه نُضوب أو شُحوب، كما في حالة عباس الجراري الذي ظل قلمه سيّالا حتى أسلم الروح.
وبرحيل عباس الجراري، يرحل كبير من كبار النبوغ المغربي ، وعميد عتيد حاضن للأدب المغربي قديمه وحديثه، تليده وجديده .
وبرحيله يُسدل الحداد عل النبوغ المغربي التأسيسي الماهد ، الأصيل الأثيل الجميل ، الذي وضع حجر أساسه العلامة الأديب عبد الله كنون ، ووضع حجر تمامه العلامة الأديب عباس الجراري ، ليتضاعف عبء الرهان والمسؤولية والاستمرار والنقد الذاتي ، على الأجيال الجديدة من ورثة النبوغ المغربي ، لاستدامة المسار وتجديد دمائه .
و/ ليس الفتى من يقول كان أبي / ولكن الفتى من يقول ها أنذا
وعظمة عباس الجراري أنه بوّأ الأدب المغربي كرسيه العالي في الجامعة المغربية الحديثة، من حيث كان هذا الأدب مركونا في الظل مهمّشا مَنسيا سواء عند المشارقة أو عند المغاربة المحدثين أنفسهم الذين أشاحوا عنه مُعرضين من حيث أقبلوا مُحتفين بآداب المشرق العربي ، مدفوعين بالقولة المأثورة (مطرب الحي لا يطرب) .
وبهذه الريادة المغربية الجامعية، بهذه “المَغْربة” الجامعية الغيورة، فتح عباس الجراري الباب على مصراعيه أمام أجيال وأفواج الطلبة الباحثين الجامعيين، ليواصلوا مسار هذه المَغْربة الجامعية الأكاديمية. والشواهد على ذلك ماثلة للعيان.
وعلى هذا المحجّ، كان برفقته أساتذة زملاء تجمعهم أسئلة وهموم أدب الغرب الإسلامي، أذكر منهم محمد الكتاني ومحمد بنشريفة ومحمد بنتاويت وعبد السلام الهراس ..
وما يعضّد ويعزّز هذا الدور الريادي الجامعي الذي أنجزه الجراري، أنه جمع بين الحفر العلمي الأركيولوجي في تضاريس الأدب المغربي القديم ومقاربة ظواهره وقضاياه، والانفتاح على الأدب المغربي الحديث ، عند أجياله المخضرمة والحديثة والطليعية – الحداثية، جامعا بين الطارف والتليد .
يُضاف إلى ذلك، انفتاحه على الأدب المغربي الشعبي – الزجلي المسكوت عنه وذلك من خلال أطروحته الجامعية عن (القصيدة / الزجل في المغرب ) ، في فترة ريادية مبكرة ، لم يكن فيها الزجل المغربي شيئا مذكورا .
وقد أهّلته ثقافته الأدبية والتراثية الموسوعية العميقة ، ليضرب بسهمه في أكثر من مضمار ومدار ، بما في ذلك مضمار الخطاب الديني المستنير- المجدّد الذي أبلى فيه أحسن بلاء وأفحم ببلاغته وحجّته الخطاب الظلامي المسيء للإسلام .
ولستُ هنا في مقام الإحاطة بهذه الموسوعة الفكرية التي ارتوت من حياضها الأجيال .
بل هي مجرد انحناءة وفاء وبُرور وإجلال، أمام هذه الموسوعة – المَعلمة الأدبية المغربية ، التي ستظل موصولة الحياة.
و/ ما مات من زرع الفضائل في الورى / بل عاش عمرا ثانيا تحت الثرى
فالذّكر يُحيي ميتا ولربّما / مات الذي ما زال يسمع أو يرى
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة