الأديبة علياء الاعتناء بالفسيلة وبناء الكلمة
الشاعرة أم الخير الصالحي وغرس الفسائل:
رحموني عبد الكريم
في القراءة يطمئن الإنسان وفي النقد يرتحل الفكر بين ثنايا صفحات الدواوين الشعرية و الكتب النثرية الفكرية، يقلب، يفتش، يمحص ويرقب بين سطور النصوص المكتوبة، يطلب الفهم يدعوه حثيثا، وبين القراءة الواعية برد فعل القارئ وتفكيره حول المعاني المكتوبة، وكيفية الحكم عليها وتقويمها وكشف هذه الفسائل التي غرستها الشاعرة أم الخير الصالحي والنقد إذ ينادي القارئ سطور قصيد الفسائل للشاعرة، يعزف عليها آليات الفهم والتفسير، سلطة الشرح والتأويل يستخرج منها جواهر منسية ومكنونات غنية « فالقصيدة ليست فستانا جميلا على جسد امرأة تتزيّن للشوارع، القصيدة قصد يستهدف الكلمة وهي ترنو إلى الحرية أمام نوافذ السقوف المشرعة على الحراك والعراك.»[1]
نقرأ الشعر مع الشاعر في محرابه ونقرأ النثر مع الكاتب في خلوته فكان الإعجاب الشديد وأنا أتذوق قراءةً فسيلة من ” فسائل ” الشاعرة الأديبة أم الخير الصالحي المغربية بجبال الأطلس في منطقة أزرو، فتبادر إلى ذهني ما الشعر عند أم الخير الصالحي؟ ولماذا تحولت إلى كتابة النثر انطلاقا من روايتها ” علياء” ؟ وما المغزى من وضع ديوان ” فسائل ” نكرة ورواية ” علياء ” نكرة كذلك؟
سؤال يحيل إلى الشاعر في بساطته، يحيل إلى الناثر في تواضعه، لكن في البساطة يكون العمق وفي التواضع تكون محبة الحروف العربية ومغامرة الكتابة، أنه محبة الفسيلة والتعهد بغرسها والاعتناء بها إلى لحظات الفناء ونهاية الكون يقول المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: « إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا.» الشعر عند الأديبة أم الخير الصالحي سحر و غرس، وكلماته أشد وقع وحروفه تعاويذ ورقى يلقيها الشاعر على خاطر المتلقي، يسحر بها الألباب ويخطف بها العقول، ويجعل القلب يرقص طربا، والفؤاد يَنتَشي لحروف الشعر المبنية انتشاءً، وهي سيمة قوية بارزة من أول فسيلة في ديوان ” فسائل ” إلى أخر فسيلة منه وتنجذب نحو الفسائل ذات الأحكام الجمالية والأبعاد الأستطاقية، فإذا كان هربرت ريد: «عرّف الجمال بأنّهُ وَحْدةُ العلاقات الشّكليّة بين الأشياء التي تدركها حواسّنا »، في حين يعتقد هيجل، بأنّه ذلك « الجنّيُّ الأنيس الذي نصادفه في كلّ مكان» فإن ” فسائل ” « القصيدة التي تبشّر بكل المعاني والقادرة على حمل الكرامات الطالعة من التعب الروحي للشاعر.»[2] ، بالرغم من وجع وسقم وألم الشاعرة أم الخير إلاّ أنها تتألم لآلام الآخرين فساقت سطورها في قصيدة رائعة جميلة لأهل غزة الجريحة « هل أنت من غزة، لا تلعب في الأرجوحة، فثم قصف يترصد، يقطع الحبال ويجتث الشجرة…» وتنقبضُ الشاعرة الصالحي مشمئزة من هذا القصف والقطع والترصد والاجتثاث،فليكن اتفاق بينها وبين فسائل الإنبات والغرس، دعوة صريحة للغرس والتعهد بإحياء الفسيلة رغبة عندها لا تقاوم فمن يدري؟ فلعل الكلمة الطيبة إحياء لوجدان الإنسان؛ و « الإنسان في عقيدة القرآن هو الخليقة المسئول بين جميع ما خلق الله، يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب، فلا تدركه الأبصار والأسماع.»[3] والبحث عن الإنسان في ديوان ” فسائل ” هو البحث عن مكانه في الوجود، وعن مكانه بين الخلائق الحية على هذه الأرض، أنه البحث عن عزلة الإنسان الحقيقية، فهو جزيرة يتألم وحده لا مناص له إلاّ القلم ليبدع “فسائل ” فجاء العنوان نكرة ليدل على مسمى عام، شائع غير معين، فالعموم والشمولية دلالة رمزية لهول الأمر وشدة وطأة الفسيلة التي تدعو أم الخير إلى غرسها على نذير بالهلاك.
التحول من قرض الشعر إلى كتابة الرواية: الكتابة الإبداعية محبة ومغامرة، تعاطي وملازمة، عشق وجنون، ثم إبداع وفنون يبدع الكاتب “العاشق” أشكالا قد تكون شعرا أو نثرا، نقطة منشودة واحدة عند الأديبة أم الخير ومن هنا يمكن القول هي وقلمها تستطيع الرحلة في تجربة روائية وسمت ب ” علياء ” مسار الوجود والكينونة؛ وجود تلك الطفلة التي تريد إثبات الذات واثبات الدازاين مفهوماً أساسياً عند الفيلسوف الألماني هيدجر في كتابه ” الكينونة والزمان “، يدل هذا المفهوم عن صيرورة تشير إلى الوجود الإنساني في العالم، فأرادت هذه الطفلة في رواية ” علياء ” أن تُبَيِنَ صيرورتها الإنسانية للزفاف الذي دُعِيَتْ له عائلتها « وسط زحام النسوة، وجدت لنفسها طريقاً لتمر إلى الغرفة، وتتخذ لها مكاناً تجلس فيه بعيداً عن سطوة أمها. مكان يتيح لها رؤية الداخل والخارج حتى لا يفوتها شئ.»[4] ثم صيرورة السؤال الدال على كينونة ” علياء ” الطفلة الشقية، فلم أر فيلسوفا كالطفل يثير السؤال، ينظر من حوله، يتأمل الكون، يعمل العقل في كثرة الكلام والمقال، دائم الأسئلة الكثيرة العميقة حيث شهدت الآونة الأخيرة في المجتمعات الغربية تنمية روح المساءلة وتشجيع الطفل على التفكير والقانون العقلي، الذي قال عنه هيراقليطس اليوناني «يجب أن يقاتل الناس من أجل اللوغوس أو القانون العقلي كما لو كانوا يقاتلون دفاعا عن أسوار مدينتهم» فدافعت النخبة الفكرية في الغرب على الحكمة الفلسفية للطفل كهيكل شامل، تحظى فيه مكتشفاته المتفرقة هنا والمحيط الخارجي الذي ينتمي إليه هناك، فكذلك رواية ” علياء ” الجديد فيها استدامة السؤال وبقدر التساؤل تنمو قدراته الإبداعية « متى أكون عروسا؟ هل سيطول انتظاري؟ من سيكون عريسي؟ بابا مثلا ؟….. متى نأكل يا أمي؟ ….ومتى نتعشى إذن؟ لم يتسخ ثوبك هذا بعد، يا أمي. فلماذا تريدين خلعه؟…لماذا يا أمي كل ذلك؟ لا أظن أن هناك من سيتذكر ماذا لبست؟… »[5] أنها الطفلة ” علياء ” الشقية بسؤالها؛ وفي الشقاوة حلاوة الكتابة مزية الارتقاء عن نكبات الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي والاستنساخ وعصر الذرة وتلاشي القيم، ففلسفة التربية إذن تضمن التفكير الفلسفي للطفل ولقد وفى جون ديوي هذا الموضوع حقه في كتابه ( تربية اليوم )، فهو يعتقد أن التربية المجدية الحق، هي نتيجة إثارة قوى الطفل عن طريق مطالب الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها، « هو إعداد الطفل ليصبح قادراً على ضبط حريته وعلى استعمال قوته في التعليم. »[6]
قائمة المراجع:
- عباس محمود العقاد: الإنسان في القرآن، دار نهضة مصر للطبع والنشر، دون سنة. القاهرة.
- روني وبير: التربية العامة، ترجمة: عبد الله عبد الدايم، دار العلم للملايين، بيروت، طبعة ثالثة سنة 1977.
- عبد الحفيظ بن جلولي: أشرعة النص…أزمنة الذات ( أسئلة الشعر في قصيدة عبد القادر رابحي ) دار خيال للنشر، طبعة أولى سنة 2020 .
باحث وكاتب من الجزائر.
[1] عبد الحفيظ بن جلولي: أشرعة النص..أزمنة الذات، ص: 07 .
[2] المرجع السابق، ص:07.
[3] عباس محمود العقاد: الإنسان في القرآن، ص: 08.
[4] أم الخير الصالحي: علياء، ص: 15 .
[5] المرجع السابق، ص: 04،14، 16 .
[6] روني وبير: التربية العامة، ترجمة: عبد الله عبد الدايم، ص: 23 .
عذراً التعليقات مغلقة