عزالدين مصطفى جلولي
كاتب من الجزائر
على كل حال، فلسطين كلها ملك للأمة وليست ملكا لفصيل أو شعب لم يقرر جميعه بعد ما يلزم فعله لتحرير بلده. الصراع والرباط ماضيان إلى يوم الدين، وهذه جولة من جولاته وليست نهاية التاريخ. على الأقل ننظر إلى الصهاينة كيف هم صلب الرقاب، من أجل أباطيل، وعلى أصحاب الحق، أن يثبتوا، كما جاء في الإنجيل: “ومن أقوالهم لا تخف، ومن وجوههم لا ترتعب”.
جنوب إفريقيا ترفع دعاوى قضائية ضد وحشية الصهاينة، وحراك الطلاب يعطل الحياة في الجامعات الأمريكية احتجاجا على مجازر الصهاينة، ودول من أمريكا اللاتينية تقطع علاقاتها الدبلوماسية استنكارا لجرائم الصهاينة… وأقران هؤلاء من الدول المحيطة بالصهاينة رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فسبحان من له في خلقه عجائب!
إن هيمنة الثقافة الأمريكية على الإعلام والتعليم والبحث العلمي والسياسة والاقتصاد والاجتماع… لا بد أن تنتهي، ولكن ما هو البديل الذي سيملأ الفراغ؟ بعث التجربة الحضارية للمسلمين من جديد، من دار الأرقم، وبيت الحكمة، من الزيتونة وقرطبة والقرويين، من الأزهر والمدرسة النظامية ومحاضر شنقيط وبخارى وطشقند… ومن كل موطئ كانت تشع ذرات تربه بالحق والنور والإيمان.
يقال هذا عن التخدير المركز الذي تعرض له الوعي الأمريكي طيلة قرن من الزمان، فماذا نقول عن التنويم الممغنط الذي خضع له نظراؤهم في بلدان المغرب و المشرق والخليج، وما وراء النهرين؟
يفتقد بعضنا الوحدة العربية في هذه الأيام الصعبة من حياة الأمة، ولكن على أي أساس صحيح تبنى الوحدة بين الدول العربية؟ وماذا عن الدول الإسلامية؟ وعن الشورى بديلا عن الاستبداد والديموقراطية؟ ما زال بعضنا يفكر لأمته من داخل الصندوق الذي دخلنا فيه ولما نخرج منه بعد… استلهام التجربة من القرون الوسطى عند المسلمين والبناء عليها أفضل سبيل وأقصره، والعودة إلى ترميم أنقاض الدولة القومية والقطرية المنتهية صلاحيتهما، في ضوء تجارب أمم مختلفة عنا، مقامرة أخرى بحياة الأجيال القادمة.
إذا كانت هنالك مقاومة برية وجوية فاعلة على الأرض في الجنوب اللبناني وكذا الفلسطيني، فلم لا تكون هنالك مقاومة جوية موسعة تساندها؟ والذهاب إلى القول بأن فتح الأجواء العربية للعمل العسكري لا يخفف على المدنيين بل يزيد من معاناتهم فيه نظر؛ فما حدث ليلة القصف الإيراني- على حيائه- أمتع الناس حتى في الأردن والعراق المتخوف حكامهما. بقي أن أشير إلى أن الأجواء المفتوحة أساسا في سماء سورية والبحر الأحمر مثال يحتذي لباقي الدول المسلمة والحركات المسلحة كي تقدم ما عليها على درب تحرير الأقصى. ولتترك الخلافات البينية جانبا.
إن لكل توجه فكري رؤيته الخاصة لقضايا تتعلق بالديموقراطية والعدالة الاجتماعية، يبنيها وفق مجاله التداولي. وكثيرا ما يقع الباحثون في الخلط بين المجالات عندما يعالجون قضية مشتركة بينها؛ لذلك يحسن منهجيا البحث في المنطلقات وفي الغايات مترافقة والبحث في المضامين. ولقد حاول البعض مثلا إضفاء الصبغة الإسلامية على الاشتراكية، وعد محمدا صلى الله عليه وسلما إمامها، وكذلك فعل الليبيراليون وغيرهم. كما أشير أيضا إلى أن المفاضلة في الشورى تقوم على أساسين هما العلم والصلاح، والديموقراطية لا تعبأ كثيرا بهذا، لذلك اعتبرها أهلها “هشة”… وللعدالة الاجتماعية في الفكر السياسي مفاهيم متباينة، لا تسعها اليوم نظرية الدولة القومية والقطرية، لأنها لا تسع الخليقة كلها في حدودها الضيقة؛ ويبقى الأمل معقودا على فئة من الباحثين تعيد إحياء الدولة- الأمة، التي أسسها النبي (صلى الله عليه وسلم) وسار الخلفاء الراشدون من بعده على دربها.
إن المطالبة النظرية بإصلاحات لا تجدي نفعا في دولة لم تستقر تقاليد الحكم الرشيد فيها بعد، ولا بد من رافعة للإصلاحات من الميدان لا من البيان. ما آلت إليه تونس “ديموقراطيا” لا يعطي الأمان لما هو آت، ما دامت المشكلة في الديموقراطية ذاتها. سيدخل المال السياسي بقوة، وستتسلل أيد “خبيرة” إلى مراكز السيطرة والتحكم في المشهد التونسي، لتختطف الإرادة الشعبية وتجير الدولة في مصالحها السياسية الداخلية والخارجية، “ولو شاء ربك ما فعلوه” إن عاد التونسيون إلى الزيتونيين الفحول وما قالوه.
يبذر مال الأمة لدى بلاد المغاربة من أجل تسلح لا تصب في فائدته إلا عند البائع (أي المصنع) والمشتري (أي الأنظمة)، أما شعوب المغرب الإسلامي فمصلحتها في الوحدة والاكتفاء الذاتي في كل شيء، لأن الخطر الدائم داهم من الشمال، كما وثق تاريخ إفريقية الشمالية. ثم إن هذا السلاح لا ينفع بأسه مع الغزاة التقليديين، إنما يستقوى به على الشعوب لا أكثر؛ وفي ذلكم استدراج من الله تعالى للأنظمة التي لا تراعي حق الله وحق العبد في ما تأتي وفي ما تدع.
من أفضل ما يستفاد من السياسة الشرعية لمعرفة ما حصل لاتحاد المغرب العربي الكبير وما سيحصل للتكتل الثلاثي الوليد ما قاله ذلك الحكيم: “ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل”.
كثير من اللبنانيين لديهم قناعات زائدة عن الحاجة بوطن مثل وطنهم، يقوم على دستور طائفي من مخلفات الحقبة الاستعمارية الفرنسية للمنطقة، (كي لا أقول “انتدابا”)، وطن للموارنة فيه نصيب محترم… ولئن كان جمهور القوات اللبنانية متخوف من تغول الطوائف الأخرى، بما فيه تضخم بعضها باللاجئين، فإن منطق الأمة غائب عن ذهنية هؤلاء بقدر حضور منطق الدولة القطرية الشبيهة بـ”الكانتون” في مخيالهم، وتلكم مفارقة من مفارقات بلاد المشرق، منذ خسارة الأقليات غير المسلمة الحماية الإسلامية لها. حماية الإسلام الأممي الرفيق العادل برعيته، لا النمط المغشوش من التدين الدخيل على بلاد الشام، والذي لا يرى للناس حقوقا إلا ما يراه.
عذراً التعليقات مغلقة