عزالدين مصطفى جلولي
كاتب من الجزائر
اطلعت على مراسلة داخلية موجهة إلى أئمة المساجد بـولاية الجلفة تدعوهم فيها إلى المشاركة في استقبال رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون أثناء زيارته العجلى منذ فترة إلى الجلفة. لم تكن المراسلة تحمل ختما أو توقيعا، وإنما أمرا إداريا بضرورة الحضور يوم الاستقبال وإلا فستخصم من راتب الإمام أيام!
حاولت أن أستوثق الخبر فلعل أحدهم أراد التشنيع على السيد الرئيس، فأُخبرت بأن المراسلة صحيحة ومن الجهة التي اعتادت أن تراسل الأئمة بما تريد من مواعيد وتبليغات واجتماعات وتوجيهات في موضوعات تمس حتى خطب الجمعة، الوعظية منها والتربوية والاجتماعية، وحتى السياسية، طبعا بما يتماشى وتوجّهات الدولة، لأن وظيفة المساجد، كما يفهمها ولاة الأمر عندنا، الدعوة إلى طاعة ولي الأمر وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك!
إن الذي أحنقني حقا، أن لا أحد من الأئمة تجرأ على كشف هذه الفضيحة، أو أدى تبليغا إلى رئاسة الجمهورية للتحقيق في هذا التجاوز القانوني، في حق الإمام وفي حق الرئيس كذلك؛ فليس من وظائف الإمام، كما حددتها التشريعات السارية المفعول، الوقوف على قارعة الطريق ينتظر مسؤولا، مهما علا كعبه، يودي له التحية ويكثر من حوله سواد الناس، وليس يخدم الرئيس البتة أن يساق له الناس طوعا وكرها، ليدلل على شعبيته في المنطقة؛ إنها إساءة في حق رئاسة الجمهورية ولا بد من محاسبة الفاعل.
لا تزال تسود نمطية شعبية تلاحقنا أنّى رحلنا، بأن أهالي الجلفة موالون دائما للنظام القائم مهما كان فساده، فبساكنتها يعلي الساسة حظوظهم الانتخابية، وبهم يرفع المترشحون، الذين عليهم رهان السلطة الفعلية للنجاح، نسب المشاركة في الانتخاب، وهذه معرّة لحقت بنا- نحن قاطنة الجلفة- رغم بطلانها؛ فالناس هنا كباقي الأمة الجزائرية، يضيرهم الظلم المتفشي ويسوءهم حال الدولة، وليت من شنع على الأهالي ها هنا درى بأن مراكز الانتخاب لا يؤطرها في الغالب إلا انتهازيون، وكم تجرؤوا على ملء سجلات المنتخبين زورا وكان أصحابها من المقاطعين.
ومن محاسن الأقدار هذه المرة، أن تقتطع السلطة من حدود ولاية الجلفة منطقتين، فيعلن الرئيس في زيارته تلك ترسيمهما ولايتين منتدبتين مسعد وعين وسارة، لتتشظى ولاية عدّها الكثيرون وهماً المخزون الانتخابي لرؤساء الجمهورية، وعيّروها بالبداوة ورعي الأغنام وبشجر الإذخر/ الحلفاء أيضا. إنها من حسنات الأقدار التي قلما تجود بها على المظلومين.
لا يستطيع الأئمة فكاك حريتهم لأداء واجبهم على منابر رسول الله حتى يتحرروا من القيود، وأولاها الحرية الاقتصادية؛ فما يضير عملهم النبيل الذي يؤدون أن يكونوا فيه متفرغين أو متطوعين، ولربما قام متطوعون بمثل عملهم أو زادوا عليه، فكيف إذا جمعوا بين التفرغ وملكوا أسباب الرزق الحقيقية خارج الوظيفة علاوة على ذلك؟ من المهم جدا أن يدرك الأئمة في كافة القطر الجزائري أن الدعوة إلى الله عز وجل تتطلب قوة وعلو صوت وتضحية أحيانا، وإلا فلقد آثروا الهوان فهانوا على السلطة التي عندها يخدمون.
تستعين وزارة الشؤون الدينية والأوقاف على ترسانة من العمداء والمفتشين، أوكلت إليهم مهام ضبطية أكثر منها تكوينية وتوجيهية، ولا يفتأ الأئمة، الذين عليهم واجب التنفيذ ليس أكثر، يشتكون من تدخل العمداء في عملهم، ومن رقابة المفتشين على ما يقولون للناس وهم على المنابر. إن للمنبر سحره وللذكر الحكيم هيمنته على ضمير الخطيب، الذي يجد نفسه في كل مرة يرقى فيها درجات المنبر أمام مشهدية ملهمة، في صراع بين الباطل الذي يراه ويسمع به، وبين الحق الذي وقف لتبليغه إلى الناس؛ إنها وقفة ابتلاء حقيقي قلما يصمد فيها الخطباء.
يبقى للمجتمع الجزائري الذي تتعاون على ترويضه النخب الحاكمة، ليغدو مجتمعا طيعا لا يستعصي على الأهواء، سيد الكلمة في هذا الواقع المر؛ فموقع الأئمة من جسد الأمة موقع القلب، فمن علمائهم القادة وذوو الرأي، ومن نور النبوة الذي ينطقون تدار شؤون السياسة والحكم. والظروف الصعبة التي تمر بها أمتنا في هذه الأيام من جراء التوحش الصهيوني على أهلنا في قطاع غزة كشف للملإ زيف القيادة في البلدان المسلمة، وأنها لا تملك من أمر السيادة المستقلة شيئا، بل من أمر شأنها شيئا؛ فبات لزاما على الأمة الالتفات إلى أولي العلم ليبوئوهم المقام المعلوم.
لا يشعر، كثيرا ولا قليلا، ما يسمى بالمجتمع المدني، من الجمعيات التي تعتمدها السلطة لتأطير المجتمع، إلى هذا الذي أقول، وآية ذلك ما تتقدم به هذه الجمعيات من مطالب وحاجات إلى زوار المناطق من المسؤولين، ومثاله زيارة رئيس الجمهورية وقائد الأركان السالفة الذكر لولاية السهوب، فكل المطالب وكل ما تم تدشينه أو تخصيص أغلفة مالية له لا يمس الحاجات الماسة للناس، وأولاها إعادة اللحمة لشرعية الحكم ومشروعيته؛ فالحكم في الجزائر لا شرعية شعبية له، ولا أدل على ذلك من الحراك الشعبي قبل حرب غزة وأثناها، والنقمة المتصاعدة من فيحها على الفجوة بين آمالها في الحياة التي ترجوها وترجو فيها نصرة مؤزرة لفلسطين وبين الموقف الرسمي المتخاذل. والحكم في الجزائر، أيضا، لا مشروعية له، لأنه يجافي الحق الذي أنزل على محمد ويعاديه، والأمة الجزائرية التي يتولى أمرها مسلمة من قبل ذلك ومن بعده، لا يماري في ذلك أحد من الجزائريين الأحرار.
عذراً التعليقات مغلقة