عبدالرحيم حمام
كاتب من الجزائر
الساعة تشير إلى ٥.٠٩ منذ قليل سمعت الآذان، بداية الإمساك عن المأكل والمشرب وكل الملذات. حاولت عبثا أن أعود إلى النوم بمخدعي الدافئ، لكن هجرني للأسف وفرض علي إمساكا آخر، يا إلهي ما ذنبي!
بدأ السكون، الذي كان مطبقا تتآكل جوانبه، وتستباح حرمته، وينحصر مداه. بأول صيحة لديك جيراننا، الصادحة. وعواء الذئاب الجائعة. ونباح الكلاب الضالة. وأصوات المركبات العابرة بقرب بيتنا. كان للضجيج والزحمة الآتية من أعماقي الدور الحاسم في الإفتكاك بالنزر القليل المتبقي من السكون المفجوع، القابع بدواخلي، ودفع النوم عني.
نعم، البارح، وقبله. بداية شهر رمضان -الذي أنزل فيه القرآن- في السنة الماضية، بكل فصولها. نعم، في فترة الجائحة وويلاتها. في العشرية السوداء، وسوداويتها وما قبلها، بل ومنذ الاستقلال. صور البؤس والتنكيل الناعم بالشعب تتكرر في كل حقبة بأساليب مختلفة وبمواد متنوعة؛ سمعت عن أزمة الموز في بداية الثمانينات ببلاد المعجزات، والكرامات. وفي نهايتها وقفت كثيرا بطوابير طويلة للحصول على جرامات قليلة من اللحم المستورد، واقتناء كميات من رائحة القهوة الممزوجة بالحمص والشعير! وأغلب العائلات الجزائرية تقيم بالطابور شهورا وقد تمتد الإقامة إلى سنوات، للحصول على “صندوق العجب” عفوا التلفاز، طباخة، أو ثلاجة، توضع في زاوية من زوايا البيت للتباهي أمام الجيران العاجزين عن إقتنائها، أو لم يسعفهم الحظ بعد.
في العشرية السوداء، طوابير لاقتناء الأمن والأمان، طوابير وإزدحام بالمقابر لدفن الشهداء والطواغيت! لم يغادر الشعب هذه المرحلة حتى بدأ الوقوف في سلاسل بشرية لدفع الملفات للاستفادة من مساكن و سيارات
عن طريق القروض البنكية الربوية. وصنف آخر في سلسلته الرهيبة منتصب بكل جوارحه يأمل في الحصول على نوع من القروض المقترحة من وكالة التشغيل، لشراء عتاد لإنجاز مشاريع وافقت عليها الوزارة.
لم تمر هذه الحقبة حتى ظهر موضوع جديد يتطلب الانتظار وربما الوساطات لكي يحصل المنتمي إلى بلاد العزة والكرامة على كيس من الدقيق، أو الحليب أما عبوة الزيت الربرابي فلمن استطاع إليها سبيلا.
أما سيدي “لبصل” في أيامنا هذه فقد احتل مكانة مرموقة بين الخضروات هذه السنة، بمقدوره تغطية تكاليف عيد الفطر ، وبامكانه أن يضحي بأضحية باهضة الثمن بقرنين ملولبين، وربطة عنق مبهرة.
للأسف، هذا هو حالنا! هذا هو واقعنا.. القوة الضاربة، المشكلة من الموالين السياسيين، والجزارة- المطلية بالدم- الملفوفين بثوب الوطنية هههه.
في خضم كل هذا ” الخرطي ” السياسي، الأمني، الثقافي، الديني، الاقتصادي والرياضي، شعرت بالغثيان يا ربك! وفي قمة البؤس، والغيض، والنكوص، تناولت كاميرتي الرقمية من نوع Kanon 700D، رحت أتصفح الصور الموجودة بها، وجدت كثافة رهيبة للواقع، الذي تحدثت عنه في الأسطر السابقة. حدثت نفسي أن أنصرف إلى أي مكان لأريح نفسي المتعبة من ثقل ذاك الواقع المرعب. والمسار الملوث، مضغوط بشكل عجيب بذاكرتها الصغيرة جدا، الذي ينفذ في المستقبل حاملا عفنه بجيناته ليخصبه وينسخ كائناته المريبة السفاكة. يدنس بفاعليته هذه العفة والفطرة.
ها أنا ذا أقرب المصورة إلى عيني اليمنى، أحدق من منظارها، وفي الوقت نفسه أدير حلقة الزوم آملا أن أقوم بتقريب أبعد مشهد ممكن لأبتعد عن راهننا الكارثي. أنا منهمك بكل تركيز في هذه المهمة. أشعر بدوار، لكن أقاوم بكل قواى. يا إلهي بدأت العدسة تأخذني إلى عوالم طريفة. إني أشاهد الكواكب والمجرات والنجوم. هناك قوة تتحكم بيدي التي تدير الحلقة وتدفعني إلى تقريب أقصى، أنفذ ذلك بكل تفاعل، وعيني متلهفة يمتلكها فضول غريب لتستكشف في هذه اللحظة ما وراء هذا الفضاء. إن بصري ينفذ..ينفذ إلى أبعد مما أنا عليه. إني أسبح. إختفى كل شيء. مرعب ما أعاينه؛ لا لون..لا أشكال.. لا طعم..لا رائحة.. لا طول ولا عرض.. لاصوت..لا زمان ولا مكان.. إني تائه غارق..غارق في لجج البياض.
أحدس أن هناك أرواحا في مرحلة التكون، والاستعداد للركوب إلينا من هناك، لتستقر بعالمنا الأرضي، ببلاد المليون ونصف مليون من الشهداء! وهم غير واعون بعد بأن كيانهم وجيناتهم ستتلوث بالأرضيين من عصابات الجزائر الجديدة. ويغامرون بنقائهم الأول. ويهدرون قواهم بالطابورات.
أيها الجزائريون، أيتها الجزائريات القادمون والقادمات إلينا من ذاك البياض المشع، جيل المستقبل، قوموا بإلغاء سفركم إلينا حالا! وغيروا الوجهة لترو النور بأرض غير هذه، وبسماء غير هذه. الأحوال هنا سيئة للغاية، وكل شيء متهالك بما فيه الكفاية. بلغتكم، وحذرتكم قبل أن تترصدكم أشعة الإيكوغرافي. وأنتم نطفة تنطلق من بين الصلب والترائب. فتنتشلكم الممرضات والقابلات من الأرحام بكل برودة، وهن متثائبات. وهواتفهن ملتصقة بأذنهن، غير مكترثات بقدومكم. ما أنتم إلا أرقام، على صفحات السجلات الإدارية ليس إلا!
دعوني الآن أن أعود إلى بلادكم المفترضة، لنأخذ مكاننا بطابور المقابر، عسى أن يكون لنا نصيبا من الثرى تتفسخ به جثتنا المنهكة، وتتحول إلى لوحة فنية تحمل رسائل صامتة، غاية في الافصاح والوضوح.
عذراً التعليقات مغلقة