عبدالجليل الشيخ
شهدت أريتريا نهضة ثقافية و أدبية بزغت شمسها مع اللبنات الأولى للهوية الإريترية المعاصرة. و ذلك نتيجة الحراك الوطني سياسياً من أجل الحرية و الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية التي خسرتها إيطاليا . و إحالة ملف مستعمراتها – ليبيا ، الصومال ، اريتريا -، الى الأمم المتحدة لتقرير مصيرها .
كانت اريتريا فترة الانتداب البريطاني (1941-1951م) ، في حالة التوهج في شتى مناشط الحياة كافة. و شملت الصحافة الوافدة من المستعمرات البريطانية – مصر، السودان، عدن، العراق -، مما انعش الصحافة المحلية سياسياً و ادبياً ، و حينها برزت أسماء ساهمت في الحراك الوطني من الرعيل الأول أمثال:( الأديب محمد أحمد سرور، و الأستاذ محمد عثمان حيوتي و الأستاذ ياسين باطوق و الأستاذ أحمد حسين حيوتي و كوليري عمر نجاشي و حسب الله عبدالرحيم، و آدم حمد أقدوباي)(1).
المولد و التكوين :
ياسين بن محمود باطوق ، أديب ، و مفكر سياسي ، ولد في 14 مايو 1914م في مدينة مصوّع – فترة الاحتلال الإيطالي -، في عائلة تجارية أستقر بها المقام في اريتريا – كانت ولاية عثمانية – ، منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. و تعلم القراءة و الكتابة في الكتّاب – مسجد الشافعي -، ثم التحق بمدرسة فرديناند مارتيني الإيطالية بجزيرة طوالوت. و أستمر في الدراسة حتى نال شهادة المحاماة للترافع أمام جميع المحاكم الأريترية عام 1955م (2).
كان شغوفاً بالعلم فلا يبارح شيخاً الا و تتلمذ على يد شيخ أخر حتى ينهل من معين العلم ابتداءً من شيوخ مصوّع وصولاً الى سماحة العلامة الأزهري الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر (1909-1969م) مفتي أريتريا الأول. حيث درس عليه كتاب صدر الشريعة في أصول الفقه، وصحيح البخاري، ومصطلح الحديث. و ذلك خلال فترة عضويته في الجمعية الاريترية – البرلمان -، ممثلاً لدائرة مصوّع في عام 1950م. (3).
بالإضافة الى عضوية النادي الثقافي العربي باسمرة ، و كان رئيس النادي أنذاك العلامة الأزهري حامد أبي بكر المحضار(1904-1990م)، الوزير المفوض لليمن في الحبشة. و كان حينها مستقراً في أسمرا، مما أتاح لباطوق أن يدرس عليه كتاب الملل و النحل، و الفرق الدينية. و كان له شرف نشر قصيدة المحضار في صحيفة الرابطة الإسلامية:” هذه هي الباقيات الصالحات فقل/ ما شئت في وصفها أو وصف منشيها “. هذه القصيدة التي شارك بها في احتفالية افتتاح مدارس اوقاف حرقيقو الإسلامية في التاسع من مارس 1944م ، و بحضور وجهاء و أعيان اريتريا، و الحاكم العام للإدارة العسكرية البريطانية. و يقصد بقوله :” وصف منشيها”، مؤسس هذه المدارس الواقف و المحسن صالح باشا بن احمد كيكيا (1904-1957م) المولود في حرقيقو الكائنة جنوب مدينة مصوّع المرفا الرئيس لدولة اريتريا.
التجربة المهنية :
انخرط في العمل الوطني في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي، حيث عمل رئيساً للجنة مدارس مصوّع 1942م ، بالإضافة إلى عضوية المجلس الاستشاري للمدينة. كما أصبح عضواً في إدارة الأوقاف الإسلامية لمدينة مصوّع ثم مستشاراً ادارياً لها. و لاحقاً تقلد منصب نائب رئيس بلدية مصوًع في أغسطس 1958م. و هو من مؤسسي حزب الرابطة الإسلامية، و عضو في مجلسها التنفيذي. و رئيس تحرير صحيفتها “صوت الرابطة الإسلامية الإريترية”، اول صحيفة عربية حزبية . و الصادرة في فبراير 1947م ، و ذلك بمشاركة بشير عثمان بشير مديرها المسؤول، و محمد عثمان حيوتي. الذين لعبوا دوراً تنويرياً، كان له أثره الكبير على الأجيال الجديدة (4).
زار باكستان في عام 1949م ضمن وفد الرابطة للتعريف بقضية اريتريا و المطالبة بالاستقلال. حيث التقى الوفد بالأحزاب الباكستانية المتعاطفة و عدد من الشخصيات الأدبية و الثقافية. و في نفس العام سافر ضمن وفد الرابطة الإسلامية برئاسة الزعيم الوطني ابراهيم سلطان مقر المنظمة العالمية – الأمم المتحدة – في نيويورك للدفاع عن أريتريا ، و حق الشعب الاريتري في الحرية و الاستقلال . و سجل الوفد سابقة تأريخية حيث ان رئيس الوفد اول من القى خطابه على منبر الأمم المتحدة باللغة العربية .(اللغة العربية في انحاء العالم ، اصدار مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية ، الرياض 2024م ، الصفحة (45).
كان أخاً و صديقاً لرائد الأمة الأريترية – الشهيد بإذن الله – عبدالقادر محمد صالح كبيري (1902-1949م، رئيس فرع الرابطة في أسمرا. الذي اغتيل و هو يستعد للسفر الى أمريكا للدفاع عن اريتريا. و رثاه باطوق بقصيدته النونية (5):
يا خادم الإسلام أجر مجاهــد في الله من خلد ورضوان
الله يشهد أن موتك بالحجـــى والجد والإقدام والعـرفـان
إن كان للوطنية ركن قائـــم في هذه البلاد فأنت الباني
حيث استخدم النداء:” ليبين حزنه و ألمه ، و ليبين مكانة المرثى و تعظيمه و المبالغة في شدة ما أصاب الشاعر “. حيث وصفه بخادم الإسلام الذي له أجر مجاهد في سبيل الله ، و الذين يقتلون في سبيل الله لهم رضوان من الله و الخلود في الجنان ، و يخاطبه ‘ن سبب موتك كان لرجحان عقلك و فطنتك الفذة تجاه مؤامرة العدو . و أنت تعد في هذه البلاد أبا للوطن و الوطنية ، فأنت الذي بنيت هذا الركن”(6).
في نيويورك ارتبط بصداقة مع الشاعر المصري رائد مدرسة ” أبولو” أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م)، الذي عمل مستشاراً لعدد من الهيئات الدبلوماسية، و من ضمنها الوفد الاريتري في ثلاث دورات متوالية منذ بدء اعمال هيئة الأمم المتحدة في نيويورك (الموسوعة الحرة) (7).
و كانت نتيجة هذه الصداقة ميلاد قصيدة “اريتريا الجديد ، تحية و نشيد”، (إرتريا إرتريا! * إلى الأمام سيري ! / لا تذعني لدنيا * تعنو إلى القدير!). و تضمنها ديوان «من السماء» الصفحة (169-170)، اصدار دار الهدى ، نيويورك 1949م . و صدرت نسخة حديثة من الديوان عن مؤسسة هنداوي 2014م.
و قد أشار الشاعر الاريتري محمود لوبينت الى الديوان بقوله:(في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، وجدت في بيت عمي في حرقيقو ديواناً عنوانه “من السماء” لأحمد زكي أبوشادي. و على الغلاف الداخلي كتب الشاعر بخط يده:”إهداء للأديب الكبير الأستاذ ياسين محمود باطوق”… جذبني الإهداء، و بدات أقرأ القصائد، و كنت آمل أن انتهي في فترة قصيرة لكي أعيده الى مكانه قبل أن يكتشف عمي أختفاؤه. و فجأة بالديوان قصيدة بعنوان “ارتريا الجديدة، تحية و نشيد”، و كانت فرحتي بها لا توصف مما دفعني الى الاحتفاظ بالديوان الى أجل غير مسمى (منقول بتصرف من مقال للكاتب).
التجربة الأدبية :
ساهم في تفعيل الحركة الفكرية والمشهد الثقافي،الذي وضع بصماته الواضحة على خارطة الثقافة ضمن النسق العام للتيارات الثقافية التي برزت أنذاك من أمثال محمد إقبال و باكثير و أضرابهم. حيث الحرية و السيادة القومية تسيران يداً بيد مع التعليم و رفع المستوى الثقافي.
كما شهدت تلك المرحلة مساجلات باطوق مع البعض من معاصريه من الأدباء والمفكرين وغيرهم. و ربما أشهرها مع الأديب الأستاذ محمد أحمد سرور – رئيس تحرير مجلة المنار الاريترية في أول إصدارها قبل ان يتولى مؤسسها و مديرها صالح عبدالقادر بشير رئاسة التحرير -، التي وصلت مرحلة أن يشارك فيها الأخرون. خصوصاً بعد مقالة باطوق: أيقال أدب عربي أم أدب إسلامي ؟، مجلة المنار- ص(9-15) العدد الثالث 7 جمادى الأولى 1374هـ الموافق 1/1/1955م . حيث كتب فضيلة الشيخ غوث الدين الحاج مؤمن الأفغاني مقالة بعنوان: الأدب إسلامي، في مجلة المنار- ص(15-17) العدد السادس 8 شعبان 1374هـ الموافق 1/4/1955م. و أوضح بأن الهدف:( لإزالة الشبهة و الخفاء عما وقع فيه الإختلاف بين الصديقين الفاضلين الشيخ ياسين باطوق و الأستاذ محمد سرور في مسمى الأدب و مصدره العلمي).
تمنح مقالات باطوق القارئ فرصة للأطلاع على الأدب أنذاك. و تكشف عن ثقافته العربية و مصادرها:(اذ بينما تجدني مع شيخ الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتبه- “فصول في الأدب و النقد “،”وفي الأدب الجاهلي”، و “حديث الأربعاء”، و “من حديث النثر و الشعر”، متنزه . فانك تجدني مرة أخرى مع غيره من كبار الأدباء المعاصرين كأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد في” تأملات في الفلسفة و الأدب و السياسة و الاجتماع”. و الأستاذ العقاد في “مراجعات في الأدب و الفنون”. و الزيات في “أصول الأدب”. أقول بينما تراني مع اساطين الأدب و فطاحلة من العلماء المعاصرين، اذ بك تراني، و قد طويت حجب العصور الماضية كطي السجل للكتب، فتجدني و قد التقيت الجاحظ في “البيان و التبين”، و بالمبرد في “الكامل”، و ابن قتيبة في “أدب الكاتب “، و بابن عبده ربه ” العقد الفريد”. و لم تمض غير ساعات حتى تراني، و قد عدت من هذه الرحلة بعد أن متعت النفس برؤية هذه الجنان الفيحاء و المروج الخضراء، فالقى عصى التسيار الى ساحة وارفة الظلال ، و قد فجر الله فيها ينابيع الأدب و الحكمة، ذلكم هو كتاب”تاريخ الأدب العربي” لنابغة العصر المرحوم مصطفى صادق الرافعي (8).
من خلال البنية المعرفية التي يستند عليها، تجده منافحاً عن الأدب في مقالة بعنوان : أدب المعدة و أدب الروح – مجلة المنار – ص(9-13) العدد السادس 8 شعبان 1374هـ الموافق 1/1/1955م. حيث أوضح مفهوم أدب للمعدة بقوله:”أدب للمعدة، هو ذلك الأدب الذي ينظر صاحبه إلى الوجود نظرة من يحاول الحصول على الخبز، و علاقته بالمتمع و بكل ما يدور حوله من أشياء هي كهذه النظرة بالذات. و من أجل هذه الأسباب نجده يتغنى بالمديح للإرتزاق و يكسب و يثور بالهجاء في سبيل استرضاء من يطمع كرمُه. و من هنا انحطت قيمة مثل هذا الأدب، و نزلت مكانته الى الحضيض. و أصبح يطلق عليه أدب المعدة لأنه لا يثير في صاحبه استطلاع أسرار الكون، و الأفتتان بجمال الطبيعة و التغني بأفانين الوجود”(9).
تم تحديد الأدب كقيمة روحية مقابل أدب المعدة بقوله :(أما أدب الروح، فهو ذلك الأدب الذي يدعو صاحبه الى النظرة العميقة الشاملة على العالم كله. و يجعله يحس بالطبيعة و يستشعر جمال الكون. و يسعى الى استكشاف نواميس الطبيعة و استكناه دفائن الكون و تصوير ذلك تصويراً إبداعياً قدي يكون له أكبر تأثير في رقي الأمة و حضارتها) ( الأدب و الأديب ، مجلة المنار ، العدد 2 ، ص: 10).
و بتناول الآداب في الحضارات القديمة و المقارنة فيما بينها حتى يصل لمرحلة الحديث عن الأدب العربي الإسلامي فيقول:(و ها قد جاء دور الحديث عن الأدب العربي الإسلامي، فلا غرو أنه أدب روح و أرف الظلال. يمتاز بالحيوية و الخيال الخصب و قوة الإبداع و الإنشاء بدرجة لا تدانيه فيها الآداب القديمة . و مع ذلك كله فقد أراد بعض الباحثين أن يلصق عليه التهمة بأنه أدب معدة .
أتدري لماذا ؟ كان هذا الحكم الجائر؟ ان الحجة في ذلك هو كثرة المديح و الهجاء في شعر العصر العباسي. كثرة تدل على طغيان أدب المعدة في ذلك العصر. و لكن سرعان ما تتبدد مثل هذه التهمة من نفسك و لا يبقى لها أثر عالق بذهنك اذا علمت أن أساس الأدب العربي هي دعوة الإيمان و لغة القرأن . و قد كونتها تعاليم الدين الحنيف التي يرجع الفضل في تحويل العقلية الأولى التي كان يتجلى فيها ضعف التعليل في فهم و إدراك الإرتباط بين العلة و المعلول و السبب و المسبب، حولتها من هذه الحالة الساذجة إلى حالة النظرة العميقة الشاملة.
و حتماً الى سبر غور مجاهيل آيات الكون و اكتشاف نواميس الطبيعة، و إطلاق الحرية للعقل و تحريره من الأغلال التي ظل يرسف تحتها قرون طوال. فهذه هي اذا الدافع و الأسباب التي رفعت مكانة الأدب العربي، و جعلته في عِداد بل و في طليعة الآداب العالمية القديمة الكبرى. لأنه يستوحي الهامة من روحانية السماء التي لا تقييم وزناً للون و الجنس و العنصر ( الأدب و الأديب ، مجلة المنار ، العدد 2 ، ص: 10).
ترجم إلى العربية كتاب “تاريخ محافظة مصوع الإقليمية” لدانتى أدرسو الإيطالي، وكان بصدد تأليف كتاب سماه “فصول عن ماضي شعوب أريتريا وحاضرها”، مخطوطة لم تكتمل حيث وافاه الأجل بمسكنه في حى طوالوت بمدينة مصوّع ، ليلة الجمعة أول سبتمبر 1967م (10).
رحم الله باطوق، الذي حمل رسالة العلم و الآدب و الدفاع عن الهوية الأريترية حتى رحيله . و ترك ينبوعاً يرّفد الثقافة الأريترية المعاصرة.
————
- د.محمد عثمان أبوبكر – جذور الثقافة العربية و التعليم في أريتريا – الناشر المكتب المصري لتوزيع المطبوعات – القاهرة 1997م ص:122
- منقول بتصرف – ترجمة باطوق في موقع مفتي أريتريا الأول mukhtar.com
- المصدر السابق.
- د.محمد عثمان أبوبكر – تاريخ اريتريا المعاصر– القاهرة 1994م ص:328
- منقول بتصرف – ترجمة باطوق في موقع مفتي أريتريا الأول mukhtar.com
- منقول بتصرف، الشعر العربي الحديث في شرق افريقيا – اريتريا و الصومال أنموذجا -، د. حامد أحمد حامد رضا (رسالة دكتوارة 2019م). ص:139
- الموسوعة الحرة، ايضاً كتاب رائد الشعر الحديث، أحمد زكي أبو شادي ، تاليف محمد عبدالمنعم خفاجي، القاهرة 1955م ط2 ج 1 صفحة: 64
- باطوق – الأدب و الأديب – مجلة المنار – العدد الثاني – ص: 9
- المصدر السابق.
10) منقول بتصرف – ترجمة باطوق في موقع مفتي أريتريا الأول mukhtar.com
عذراً التعليقات مغلقة