محمد بصري
باحث من الجزائر
” لن تكون سعيدا أبداً طالما ستظل معذَّباً بمعرفة أن هناك من هو أكثر سعادة منك”
الحكيم سينيكا
بيار الرابحي (1938 /2021 ) مثقف عصامي وعميق جدا .أصالته نابعة من جذوره الصحراوية الجزائرية تحديدا من القنادسة التي تبعد عن ولاية بشار بجنوب الجزائر ب 18 كلم. هذه القرية الخجولة و العرفانية التي لطالما ضخ رحمها الخصب مثقفين ومفكرين وأدباء ومتصوفة وفقهاء وشهداء ، فهو من أسرة متوسطة الحال امتهن والده الحدادة وشب الابن وترعرع في بيئة صعبة تتطلب جهدا مضاعفا للتكيف مع قساوة المحيط وطبيعة الفترة الاستعمارية التي تجرع فيها الجزائريون المرّ و الويل والقهر من المستعمر الفاجر.نقلته أسرة مسيحية معها إلى باريس وسنه 1954 لم يتجاوز الخمس عشرة سنة بغية تحسين تعليمه وشروطه الثقافية والاجتماعية الطبقية عمل بالتمريض . انتقل إلى المسيحية وتنصّر في سن السادسة عشر ثم تجرد من الأديان التي لم تعد مصدر إبداع ميتافيزيقي له، لتعانق روحه مفهوم الخلاص الطبيعي ما يدعى إيمانا حرا. بيار رابحي ينحدر من عائلة مرحة جدا وموسيقية تهتم بطبوع فنية محلية العربية و الشعر و بالموسيقى الأندلسية.
رابحي بيار ابن مدينتي “القنادسة” كثيرا ما زرت بيته القديم قرب زقاق ودرب يدعى “درب العمور” بالقصر القديم بالقنادسة . مكان فسيح أجريت عليه تعديلات بصالة واسعة للضيوف ومطبخ عتيق وغرف بسيطة من الطين والأحجار الزرقاء. هذا البيت الذي شهد ميلاد أحد أعلام الثقافة الايكولوجية والتسامح الطبيعي الكوني. إسمه القديم “رابح “وبالصيغة التكبير التي كان أهل القرية ينادونه بها “بارابح”.
فلسفته نابعة من الشعار الرواقي الجوال والعابر والكوني “عش على وفاق مع الطبيعة”فمصدر الرضا هو أن تنصت بشغف للطبيعة وتنتظم داخل إيقاعها فهي الأم.رابحي كان يرى في رحلته الدرامية من الجزائر إلى الغرب وفرنسا ولادة عسيرة وصعوبتها تكمن في إعادة تشكل الذات من بيئة سوسيوثقافية بكل شروطها إلى أخرى مغايرة جدا فهي رحلة وعي شقي ،تحتاج إلى كم هائل من الحدوس الصوفية والتأمل الذاتي الممزوج بطقوس الفلسفة الطبيعية.
البيئة هي مصدر السعادة الرصينة والانضباط أي التوليفة الطبيعية بين الجسد والصحة الداخلية النابعة من احترام المحيط والكوسموس الذي نحيا فيه. الانسجام البيئي لا يختلف عن التناغم العاطفي والأخلاقي والاجتماعي. ما يجعلني سعيدا مثل الحكيم الأبيقوري هو مدى تفاؤلي و اتزاني في وفاق مع بيئتي وهنا يبدو الرابحي إغريقيا أبيقوريا حكيما يرى أن تغيير الداخل يبدأ من حسن الانصات للخارج.
يعتبر فريديك لونوار الفيلسوف المدغشقري الغزير الانتاج والمتأثر باسبينوزا “بيير رابحي” الفلاح الفيلسوف الأصل بأبيقور الجديد الذي يؤمن بفرضية “قناعة السعادة”1- (فريديريك لونوار السعادة ص 33) .كون الراحل الرابحي فيلسوف حدائقي يهتم بثقافة المشاتل والبيئة وهو ضليع في هذا المذهب وعارف به. غير أن توصيفه بالأبيقورية يتطلب وقفة وتساؤلات ؟علينا أن نعي ونفهم بداية ما هي هذه الفلسفة والنزعة النسقية والخطاب الذي يتمحور حول اللذة والسعادة.
أبيقور كان مؤمنا بمبدأ السعادة وفلسفته هي ملاذ ترويضي لمبدأ اللذة. من الخطأ تصَوُّر الأبيقورية كدعوة للبوهيمية ولإعلاء الرغبات واللذات طبقا للكمون الغريزي الثابت المتوثب في النفس البشرية.ففلسفته هي تيار مناوئ للقرنائيين الذين اعتقدوا أن اللذة غاية في ذاتها2- الشيخ كامل محمد محمد عويضة أبيقور مؤسس الأبيقوية ص44. أي الارتقاء باللذة إلى درجة التعالي العقلاني من حيث هي تأمل في الطبيعة وممارسة فلسفة الصمت والتماهي مع الفن وإيقاعات الموسيقى كونها ترانيم طبيعية تعيد الانكفاء الإيجابي على الذات والحياة الداخلية. فلسفة بيار رابحي هي امتداد لمفهوم الطمأنينة الذاتية واستعادة السلام الروحي والسعادة من فلسفة التجسيد المادية والغرائزية. وهي ذاتها فكرة ابيكتيتوس الفيلسوف الإغريقي الذي يرى نقلا عن فريديك لونوار أن السعادة هي صناعة ذاتية ونضال ضد القهر وشروط الاستبداد ” لا يمكن لأحد أن يسبب لك الأذى إذا لم تكن تريده.لأنك ستتعرض للأذى عندما ترى أنك تتعرض للأذى” 3- فريديرك لونوار السعادة نفس المرجع ص100.
كيف يتفق أبيقور والرابحي أيديولوجيا وفلسفيا، هو تأويل يتجه إليه قراء وشراح الفيلسوفين .بيير رابحي الذي تحول إلى المسيحية ثم إلى ديانة إنسانوية شبيه بالإيمان الحر. نابعة من التماهي والتصالح مع الطبيعة.السعادة كغاية بشرية فالتاريخ الانساني أفرز قيما جديدة سرعان ما تحولت إلى أصنام أذعن لها البشر وهو ما دق ناقوس خطره “الرابحي” .قيم متناقضة إلى درجة التطرف
ما يسمى الهناء الذاتي بناءً على ثقافة الإنسان السعيد الذي يُحوِّل اللحظة الحسية إلى تأمل سعيد. مكاشفة اللذة ميتافيزيقيا هي من أكثر المقاربات الفلسفية عمقا وتحديا للعقل الفلسفي الانساني.
ما يسمى في أفق فلاسفة الأخلاق سعادة مؤجلة أو سعادة غيبة أو حتى ميتافيزيقية هو مقارنتها بالواقع الذي تهفو فيه النفس إلى الرفاه،
الفيلسوف الجزائري رابحي نبـــــَّه إلى ثقافية كادت تُطوى في النسيان وهو العودة إلى الحديقة والأرض ربط الثقافة بالطبيعة وهو الملــــــــمح الذي غاب في الحداثة وما بعدها بعدما تراجع الوعي البيئي تحت مطارق تجييش العقل نحو المادة والثورات الصناعية والتقنية التي فقدت رمزيتها الميتافيزيقية وأنتجت الانسان الصانع بدل الكائن الطبيعي.
باحث من الجنوب الجزائري.
عذراً التعليقات مغلقة