آخر وصايا واعترافات الحب السائل الخواريزمي  .. قصّة قصيرة

6 يونيو 2024
آخر وصايا واعترافات الحب السائل الخواريزمي  .. قصّة قصيرة

 قصة قصيرة

محمد بصري

كاتب من الجزائر

كعادته طلب كابوتشينو مع كرواسون  بني، تأمله جيدا وصرخ في وجه النادل : يبدو أنك اغترفت هذه الشوكولا من صفيحة القمامة !!! ارفع عني هذا العفن بصوت  مرتفع !!!. قطع صاحب المقهى عمله وتنظيفه لماكنة  وعاصرة القهوة  العتيقة التي أكلها صدأ الماء المغلي وأسرع إلى الزبون الثائر متحدثا بلكنة  إيطالية مرحة وخائفة لا عليك سيد حسام  سأغير لك القطعة بأخرى أكثر حلاوة و بريقا مما تحبه هذا الصباح و تمتم في أُذُن النادل وهو يأمره بالانصراف وحسن التعامل والصبر مع زبائنه الثابتين … مسح الطاولة بيده المرتعشة حتى تبلل مِأزَرُه الأخضر . جدد طلبية حسام المثقف والكاتب اللاذع الذي اعتاد تناول فطور الصباح في مقهى “الرفاق “. فتح حسام صحيفته La Stampa التي يكرهها والتي تُسوِّق لثقافة الرأسمالية و تسخر من الماويين الجدد  والمثقفين المنغلقين الذين مازالت تعشعش الشيوعية في رؤوسهم الضخمة . لكنها تحب الاشتراكية المعتدلة. بَصَق في الأرض وهو يقرأ خبر احتجاج عمال شركات” فيات”  ومساومة النقابة لأرباب الريع على حساب الطبقة  الشغيلة والكادحين أَمْطر الصحيفة سبا وشتائم وقحة  ثم رماها  في سلة مهملات مليئة ببقايا أعقاب السجائر و علب سجائر منتهية الصلاحية وزجاجات نبيذ كريهة الرائحة.

كان صاحب مقهى “الرفاق ” لا يخشى فقدان زبون لازم مقهى الرفاق مدة لا تقل عن 25 عاما بل قلقه استمده من فقدان روح المقهى الذي كان يجتمع فيه الرفاق و بعض المثقفين والحبيبة من العشاق الذين قهرهم وعيهم وتكلست عواطفهم طوعا أو كراهية لسلطان اللقاءات العابرة المحتشمة .

مقهى السيد ” انطونيو ” كان عنوانا لعلاقات بين مثقفين عضويين غرامشيين ومفكرين ويساريين راديكاليين وصبايا شقروات جميلات ينتقدن الحكومة صباحا مساء و لا يقنعهن غير الاستقالات أو أن تذهب الدولة  بأجهزتها البيروقراطية إلى الجحيم.

عادت الطمأنينة لحسام العربي الوحيد في القرية ارتشف من  كأسه شيئا حتى ظهرت رغوة و زبد الكابتشينو على شفتيه الفظتين  و التَقــــــــَم  قليلا من الكارواسون وابتسم  محملقا في رواد المقهى الذين لم يتأثروا بصراخه وعويله الصباحي المُقزز  ولم يعيروه أقل اهتمام فالحداثة جرفت عقولهم وجعلت تركيزهم يهوي للحضيض. 

في الركن القصي من المقهى كانت تجلس شابة هيفاء لا يبدو أنها كائن طلياني ، بل سمراء جميلة بشعرِ طويل كأنه سواد ليلة ظلماء عسعس انسدل وتسربل  فوق جيدها الطويل الجميل . كانت تلبس تنورة زرقاء يظهر منها فخديها الرقيقتين وتنتعل حذاءً المانيا أزرقا كأنه ينتمي للثقافة الفارسية الفيروزية .

جمال فرعوني يدعو للتأمل والتركيز الثقافي . و كأنها سليلة سبّية مصرية سمراء اختطفها قرصان اغريقي و انتج هذا الاغتصاب و التلاقح الغريزي اللعين  كائنا جميلا يلعن التاريخ ويتنكر للرق والعبودية و وعصر الجواري والقهر الجنسي.

فوق طاولتها كان هاتفها الأندرويد الذهبي يلمع و كأنها أميرة فرعوينة تتأمل مِشْطَها الذهبي الذي كانت تتفحص فيه رسائل حبيبها الذي لن يأتي  وبجانبه وردة حمراء تُعْــــــلن الانتماء لزمن الحب العذري. فلطالما كانت الورود الحمراء الفاقع  لونها رسل العشاق وعقود تأبين لحب لن  يتحقق..

حملق حسام بعينين جاحظتين ملتهما تفاصيل جسد الصبية القصية  وتمتم بشفتيه الغليظتين يا الله ما هذا السحر وهذه الفتنة  !!!التي تجسدت في حورية سمراء !!. هل مازالت السماء تقذف بهذا السحر الأكادي. اللعنة على طليقتي التي تحولت إلى تابوت خشبي قرنوسطي لا يصلح إلا لجثت المضطهدين من رجال الدين.

كانت السمراء الفرعونية تنظر إلى ساعة الحائط وأحيانا تفتح الجوال وتغلقه بإشارات قلقة ونفس متوترة و أصابع مرتعشة كأنها شموع بنية من العهد اللازودي. وتطل من زجاج المقهى لكن يبدو أن الغائب المُنْتظر لن يأتي .

 في هذه اللحظات الانطولوجية المزعجة دخل الزوار و كانوا ثلاثة أحدهم يحمل محفظة جلدية ونظارات سميكة بلحية كثة و شعر غزاه الشيب والفوضى وكأنه محاسب مرتشي  عنيف والآخر يلبس معطفا باريسيا وقبعة بروليتارية ماوية أما الثالث يغطي ظهره “جاكيت ” من الجلد و يلبس سروالا رومانيا فضفاضا الرجل   يشبه ربانا وصيادا رومانيا أو محاربا اغريقيا .الثلاثة ينتمون لعالم الكهولة المتأخرة  ضجت قاعة المقهى بصخبهم، اقتربوا من حسام وصاحوا في وجهه وتبادلوا شتائم ونكات بالإيطالية وقهقهة و كلاما نابيا أزعج الجميلة الهيفاء وجلسوا بجانبه طلب الثلاثة خمرا رخيصة  نبيذا أحمرا. 

التفتوا في لحظة واحدة متجانسة للصبية وأمطروها بنظراتهم الحيوانية والغريزية وصعدوا بأعينهم من أسفل حذاءها حتى فـــــــــــرْوة  شعرها الأميري الخلاب. نطق ادموندو  محاورا حسام  قل لي؟ هل  هذا المقهى العفن الفاجر اليوم يستضيف كائنا لطيفا؟ من أين نزلت هذه الغزالة البرية. أجابه حسام: توقف الجو يبدو كئيبا فهناك حزن ما يعشعش في مقلتي هاته الهيفاء ؟لكن و يسوع الرب الذي تؤمنون به  لن أخرج من هذا المقهى إلا وقد ظفرت بإجابة . انتظروا سأستفزها؟

استغل حسام تناقص الزوار وخروجهم وافتتح بذكاء  نقاشا عابرا كعادة الرفاق. قائلا يبدو أن الحداثة اللعينة عبثت بالقلوب أيضا بعد تدميرها أنظمتنا العقلية والثقافية .وبدأ يسرد قصة مُتخيلة لشابة خانها خطيبها مع صديقة عمرها . وقد اكْتَشَفت ذلك من خلال هاتفه الذي تركه سهوا فوق  طاولة السفرة. ضاحكا بصوت مدوي.. يبدو أن الحب أصبح أزرقا كدماء الموتى في وسائل التوصل والسوشل ميديا ..تبا للحب .

كانت الفتاة تستمع مغتنمة اجابات أصدقائه الذين اجتمعوا على اضفاء سحائب اللعنة على العشق الأزرق . طال النقاش وأحيانا السباب بين الرفاق ثم انتقلوا لمناقشة مشاكل البطالة وانهيار الصرف ومساوئ الامبريالية ثم خرجوا تاركين حسام بعدما أجهزوا على قنينة النبيذ وارتشفوا كؤوسهم إلى حد الثمالة.

استدار إلى الجميلة  الوحيدة القابعة في ركنها الحصين وهي تشبك يديها  بشكل غرائزي معلنة استعدادها  الحزين لمغادرة المقهى . ومازال مشروبها الغازي كما هو باردا كالصقيع متماهيا مع عواطفها المُنْـــــهكة. قال حسام: سيدتي كأسك على حسابي  فأنت ضيفتنا ورفيقة جديدة لشوعيين تبرأت منهم ايطاليا بل الكون كله بعد ما أفُل نجم الانسان الكادح الضعيف لم يعد هناك مايُدعى الشيوعي الأخير.

استمالتها كلماته وبدا بريق دموع في عينيها قائلة شكرا لك هذا لطف منك سيدي. أجابها لا داعي ما ألم بك قد عشْتُه  شابا مرة واحدة في حياتي. وقطعت دفاتري وأغرقت قواربي لم أعد أفكر في الحب وها انا اعيش مثل البعير الأجرب  الطاعن في السن بعد طلاقي. بكل عفوية جلست بالكرسي المقابل له وقالت سيدي أعيش انهيارا تاما لم أعد أثـــــــق في صديق والحبيب الذي من المفروض أن نعلن هذا الأسبوع  خطبتنا أمام الجميع بدأ يتلكأ وهذا اللقاء الثالث الذي يغيب فيه متعمدا ومسوفا.

حسام : إنه يمرر  رسالة  النذالة التي تُحطم فؤاد أي أنثى. هي نهاية علاقة مخملية كان عليك أن تفهمي هذا منذ اللقاء الأول. لكن دعيني  استشرف ماضيا جميلا لك ربما عرفت هذا الشخص عبر محادثة عابرة في السوشل ميديا .

الجميلة الفرعونية: نعم كان حبا  بائسا عبر شاشة الهاتف والكاميرا وعبارات من العواطف الشفافة والباهتة حب بمساحيق مغشوشة .

حسام :  انقضى الحب الرومانطيقي والكلاسيكي يا سيديي الصغيرة  وبدأ عهد الاقصاء السريع والإنهاء المنهك لأي علاقة. على طريقة الأُكلات والوجبات السريعة الضارة.

حسام:  عزيزتي هذا حب سائل تقني ينتمي إلى هذه التكنولوجيا اللعينة متكرر ومستنسخ مثل البلاستيك والنايلون  وفارغ وغوغائي فأصحابه لهم  قابلية الوقوع فيه كلما سنحت لهم الفرصة. 

حسام: ما أسمك سيدتي الصغيرة.

الاميرة الفرعونية: إسمي  amira  أنا من أب سوداني وأم طليانية .

حسام عاشت الأسامي أميرة. أنا عربي مهاجر  مثلك جئت إلى فلورانسا وانتقلت لهذه الضاحية الملعونة  وسأهلك هنا كغراب قابيل . دعيني أؤكد لك. أن ما تمرون به يا أجيال ما بعد الحداثة  أن تدمير الثقافة التواصلية  يتم وفق خوارزمية مشؤومة أي حين تصبح  العلاقات تُختصر في شريحة الكترونية وشاشة لا تتعدى بعض السنتيمات. إنه حب بدون انضباط بدون شجاعة بدون انسانية بدون أفق. لقد أصبح حبا خواريزميا.

كانت الفتاة تنصت ويدها على خدها الأيسر ممعنة في السماع وكأنها تسترق السمع لسمفونية بديعة من موسيقى بتهوفن. استطرد حسام الحب في زمننا كان شهامة وخصال وثقافة ورفقة وحرية و مزيج بين صفات نبيلة تحفظ للأنثى جمالها الروحي والجسدي و الماهوي و تفسح للرجل حضوره والتزامه .قد ينكسر هذا الحب قد يتوقف قد يرتطم بعوائق و أعراف وشروط واحراجات ومنه ينتهي نهايات ملتزمة لكنه يبقى كذكرى مرحة تقتات عليها ذاكرتنا الموجعة إنه يشبه طائرا أخضرا كلما طاردته حلق بعيدا مسافرا عابسا متجاهلا  غير مبالي في قمم الجبال  .

تنهدت أمير ة أمام الرجل الكهل قائلة ما العمل إذن؟

حسام : يجب ياصديقتي الصغيرة أن نفرق بين السلعة والعاطفة بين الحرية والرق الالكتروني يابنيتي أصبحتم عبيدا رقميين تعيشون اغتراب الصورة .تحول حبكم إلى سائل هلامي زئبقي مثل أي دهون مغشوشة كلما سطعت فوقها الشمس تعفنت وساحت فوق الأرض. على الثقافة السائدة أن تتخلص من إغوائية المعنى. الحب له معاني تفيض عن الاشباع والاستهلاك والمتعة اللحظية .

وقف ونظر مطولا إلى أميرة قائلا تخلصي من هذا العشق الموميائي أفرغي وعيك وعقلك لأنهما صورة للقلب . وانتشلي ذاتك من الحداثة السائلة. 

صاح  في وجه النادل خُد نقودك وأحسن وفادة جميلة المقهى  وانصرف تاركا وراءه فراغا سائلا ووجوديا هائلا.

وقفت أميرة ونظرت طويلا في سقف المقهى المتهالك .وخرجت تجر  هزيمتها العاطفية  ابتسمت ثم ضحكت ضحكة ملائكية وغادرت المكان لتبتلعها أحداث جديدة ووعود جديدة ومواثيق غير الكترونية.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com