د.فارس الخطاب
رغم ما تتمتع به إسرائيل من علاقات كبيرة ومعقدة مع أغلبية دول الاتحاد الأوروبي شملت الجوانب الاقتصادية والأمنية ومسارات عديدة في مجالات البحث العلمي التعاون الاقتصادي والتجاري والأمني. إلا إنها لم تستطع أن تثبت حالة الدعم المطلق لها من قبل أغلب دول هذا الإتحاد بعد أن تمادت قوات دولة الاحتلال وإدارتها السياسية في قتل أكثر من 36 ألف فلسطيني في غزة ، وتشريد وتجويع وترهيب أكثر من مليون ونصف المليون مدني أعزل بعد تهديمها بشكل كامل لكافة وحداته السكنية ومرافقه العامة بشكل كامل ، ومع التغيير الكبير الذي حدث في النظرة ضد رئاسة وزراء دولة الاحتلال ، المتمثلة بـ (بنيامين نتنياهو ) وكابينته الوزارية ، والتي دفعت المحكمة الجنائية الدولية ، لإدانة (إسرائيل) ، وإعتبارها مارست ، وتمارس عمليات إبادة جماعية ضد شعب أعزل ، ثم تبعتها محكمة العدل الدولية التي أصدرت قراراً حازماً بوقف فوري للحرب الإسرائيلية على غزة وتحديداً في منطقة رفح ، الملاذ الأخير للشعب الفلسطيني هناك.
ومع استمرار الحرب على قطاع غزة منذ التاسع من شهر تشرين الأول- أكتوبر 2023م، تبلورت مواقف أوروبية أكثر وضوحاً وجرأةً في تحديد مطالب بات قادة هذا الإتحاد تسأل (إسرائيل) فيه بالقبول بحل الدولتين، ورفع الحصار على غزة، وكبح جماح المستوطنين الإسرائيليين الذين يقومون بعمليات عدائية كبيرة تجاه المناطق الفلسطينية المحاذية لمستوطناتهم.
لم يكن في حسابات (إسرائيل) الإكتراث للمواقف الأوروبية المنفردة، كون اللوبي الصهيوني في أوروبا على وجه الخصوص، نجح في تحميل عقدة الذنب ومعاداة السامية، لدى أنظمة الحكم القائمة أوروبا منذ الحرب العالمية، وخاصة الثانية منها ، ومع صعود اليمين المتطرف في إسرائيل بقيادة بيامين نتنياهو وإرتكابه الكثير من الفظاعات في فلسطين ، غزة تحديداً ، وجدت أوروبا نفسها بعد مرور أشهر على عمليات الإبادة الجماعية في غزة أمام مأزق أخلاقي وقانوني أمام شعوبها، هذا المأزق أفضى إلى زيادة التباعد بينها وبين (إسرائيل) ، خاصة بشأن القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان التي سلبتها إسرائيل على سكان غزة وحق تقرير المصير للفلسطينيين بشكل عام بموجب حل الدولتين.
ورغم المصالح الاقتصادية المتبادلة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي والتبادل الشعبي بين الشعب في إسرائيل والاتحاد الأوروبي فإن مستقبل العلاقات الإسرائيلية الأوروبية غير مؤكد وسيعتمد على عدد من العوامل، في مقدمتها التطورات في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وطريقة معالجة إسرائيل لإخطائها بعد إنتهاء الحرب على غزة وأيضاً رؤية الطرفين للتعقيدات المركبة والخطيرة في منطقة الشرق الأوسط والتي قد يفضي إسلوب تعامل (إسرائيل) معها إلى مضاعفات دولية خطيرة قد تغير معالم المنطقة بشكل كبير.
النرويج وإسبانيا وأيرلندا، قررت رسميًا الاعتراف بدولة فلسطين، وهي خطوة تُعد مهمة في سياق دعم حقوق الفلسطينيين وتأكيد حقهم في تقرير المصير. النرويج، ومما سبق ذكره فإن هذا المتغير الإوروبي لن ولم يكن سلوكاً إنفعالياً ضد (إسرائيل) ، بل هو ، قناعات جاءت بعد مخاض طويل من المواقف والمعتركات إختلطت فيها أوراق كثيرة وصدرت فيها مواقف لم تكن في مجملها بالقوة الكافية التي تقول لـ(إسرائيل) ، كفى؛ فالنرويج التي لها دور تاريخي في اتفاقات أوسلو، صرحت بأن الاعتراف بدولة فلسطين ضروري لإعادة إطلاق عملية السلام المتوقفة منذ فترة طويلة ، وأكد رئيس الوزراء النرويجي، جوناس جار ستوره، أن هذا القرار يأتي لدعم القوى المعتدلة في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولتعزيز حل الدولتين الذي يعتبره شرطًا لتحقيق السلام في الشرق الأوسط ، من جهته، أعلن رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، في البرلمان أن خطوة الإعتراف الإسباني بدولة فلسطين هي نتيجة لعدم وجود خطة سلام فعالة بين إسرائيل والفلسطينيين، وأكد أن الحل يجب أن يشمل ضمانات أمنية متبادلة بين الطرفين ، أما في أيرلندا، فقد أعرب رئيس وزراءها ، سايمون هاريس عن ثقته في أن دولًا أخرى ستنضم إلى هذا الاعتراف في الأسابيع القادمة، مشددًا على أن السلام الدائم لا يمكن تحقيقه إلا بإرادة حرة لشعب حر، وأكد أن الاعتراف بفلسطين يأتي من تجربة أيرلندا الخاصة في الكفاح من أجل الاستقلال.
إن إسرائيل ما زالت تعتقد بل وتتعامل وفق فلسفة “عقدة المظلوم” مستفيدةً وموظفةً لمجازر وقعت ضد اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية ، وإنها وفق هذا التصور تعتقد أن العالم مدين لها جراء ما أُرتكِبَ خلال هذه الأحداث ، وهي أيضاً ما زالت تتعامل مع دول أوروبا على وجه الخصوص وفق هذه الرؤية وما ترتب عليها جراء نفوذها الاقتصادي والإعلامي المتزايد في هذه القارة ، وما يعنيه ذلك من قدرات على كبح أي سلوك أو قرار يفضي لإدانة (إسرائيل) أو حتى لإنصاف من سلبتهم (إسرائيل) أرضهم وتحكمت طيلة 70 عاماً بنمط معيشتهم وحدود بلدياتهم فيما بقى من أراضٍ في الضفة الغربية وغزة ، ووفق هذه الرؤية ردت (إسرائيل) بسحب سفرائها من الدول الأوروبية الثلاث وتوعدت بمزيد من العقوبات للدول الثلاث احتجاجًا على قرارات إعترافها بدولة فلسطين، واعتبرت هذه الخطوات تشجيعًا للإرهاب حسب تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتس ، الذي أضاف “لن تلزم إسرائيل الصمت على ذلك.”.
إن مراجعةً تحليلية للبيان الصحفي للحكومة النرويجية فيما يتعلق بإعتراف النرويج بدولة فلسطين يقود إلى فهم ما سيكون بعد تفعيل هذا الاعتراف، فالبيان ينص على: “للفلسطينيين حق أساسي ومستقل في إقامة دولتهم. لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين الحق في العيش بسلام في دولتين منفصلتين. ولا يمكن أن يكون هناك سلام في الشرق الأوسط دون حل الدولتين”. وإعتراف الدول الثلاث هو نتاج رؤية سابقة كان نتاجها إعتراف السويد بدولة فلسطين سبقها فيه ست دول أوروبية أخرى هي بلغاريا وقبرص والجمهورية التشيكية، والمجر، وبولندا، ورومانيا. فالسلوك الأوروبي إذن هو في حقيقة الأمر يمثل كسراً للطوق المفروض عليها من الحرب العالمية الثانية فيما يخص التعامل مع المكون اليهودي في مجتمعاتها من جهة، ومع دولة الاحتلال (إسرائيل) من جهة أخرى ، ولإن الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين تمثل تأكيد الدول المعترفة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير على أرضه وإنجاز مشروعه الوطني في الحرية والاستقلال فإن مستقبل عملية (السلام) الفلسطينية-الإسرائيلية ستكون أمراً واقعاً على (إسرائيل) بعد أن كانت الدول العربية بشكل عام تتبنى موضوع السلام مقابل ذرائع من حكومات دولة الاحتلال المتعاقبة ، لكن ومع الصورة بالغة السوء التي ظهرت بها الإدارة السياسية والقوات المسلحة لإسرائيل ستكون ضريبتها تدخل الإتحاد الأوروبي في تطعيم المشروع العربي للسلام بمقترحات أوروبية إيجابية مبنية على حجم الظلم والمعاناة لشعب قدم عشرات الالاف وملايين المهجرين في سبيل الحصول على حقه في الحياة الكريمة على أرضه المغتصبة منذ أكثر من 70 عاماً.
عذراً التعليقات مغلقة